ما إن أُعلِنَت إمكانيّة حصول اتّفاق على وقف إطلاق النار في غزّة، بعد قرابة 15 شهراً من التخريب والتدمير والعربدة الثأريّة والإبادة البشريّة، حتى رقص الناس في الشوارع. لم يكونوا غافلين عن هشاشة الفرح. لم يفتهم أنّ الشيطان يسكن في التفاصيل، أنّ خصمهم أستاذ الشيطان نفسه. وها هو يناور ويراوغ ويواصل الإبادة، محرّكاً قِطَعَهُ بكلّ وحشيّة على رقعة الشطرنج الدامية. هم يعلمون جيّدًا أنّه قد ينقلب على الاتّفاق في أيّ لحظة، وفي أيٍّ من المراحل المقبلة. لكنّ ذلك لم يمنعهم من الفرح الآن. لقد أسعدهم أن يتاح لهم التفكير في الغد، بعد أن صار الغدُ ممكنًا ولو لبعض اللحظات. أصبح في وسعهم أن يخطّطوا لليوم الموالي. يكفيهم ذلك كي يفرحوا ويحتفلوا. وعلى محترفي الحكمة أن "يختشوا" بعض الشيء، وألاّ ينغّصوا على هذا الشعب الباسل أيّ جرعة فرح، بخروجه حيّاً قدر المستطاع، من هذه المحنة التي شارك في صنعها أغلب المتفرّجين، الذين يخشون انكسار الاستعمار، لأنّه قد يعني هزيمة الاستبداد.
حاولت إسرائيل اجتثاث ثقافة المقاومة من الأرض الفلسطينيّة، قتْلَ فكرة اليوم الموالي في عقل الفلسطينيّين، تيئيسَهُم من إمكانيّة الغد، إلّا بمغادرة وطنهم أو بالاستسلام الكامل لمغتصبهم. سمّت جريمتها لعبة كيّ الوعي. لكنّ الحقائق على الأرض، بخسائرها البشريّة والماديّة والرمزيّة تحديداً، أثبتت أنّ فكرة المقاومة لا تموت، أنّ حلم اليوم الموالي أكبر من القتلة. تلك هي ترجمة الشطرنج في أرض السياسة. حركة أولى تتيح حركةً موالية. ذاك ما فهمه العرّابون. لذلك قرّروا أن يفركوا أذن لاعبهم المفضّل. ولعلّهم شرحوا له، في غرفة مقفلة، أنّه هو أيضًا بيدق في رقعة أكبر منه.
ذهب الفيلسوف الألماني أرثر شوبنهاور (1788 - 1860) إلى أنّ الحياة تشبه لعبة الشطرنج، "ليس من خطّة نرسُمها إلّا وهي رهينة ما يقومه به الخصوم أمام الرقعة، وما يحدّده المجهولُ في الحياة". من ثمّ يمكن أن نرى وجوه شَبَهٍ عديدة بين الشطرنج والسياسة أيضًا. الحاضرُ المُرجأ والرغبةٍ البعيدة: إطاحة المنافس. "كش مات". هذا الحاضر المُغيّب جزءٌ من اللعبة، لكنّه أصبح جزءًا من الجِدِّ أيضًا، خصوصًا في هذه المرحلة، حيث يحرّك اللاعبون القِطَع من دون أن يبدو عليهم الانتباه إلى أنّ الرقعة من أنهار الدماء، وأكوام الجثث، وآلاف المقابر الجماعيّة. ويلزمك صبرٌ أولمبيّ، ودمٌ أبرد من جليد القطب، وأعصاب أصلب من الفولاذ، كي ترى كلّ ما يحدث ولا تنفجر: قاتل يمنحه العالم المزيد من الوقت كي يمارس المزيد من القتل، فيما تطلق عليه المجموعة العالميّة، في ضربٍ من السينيزم البشع، اسمَ سلام القوّة، أو لعبة الأمم، أو شطرنج السياسة.
لكنّ ما نراه شطرنج كاذب. شبيه بالكريغشبييل (Kriegspiel وتعني لعبة الحرب بالألمانية). تحتاج هذه اللعبة إلى ثلاث رُقع: واحدة لكل لاعب، والثالثة للحكَم والمشاهدين. يلعب كلُّ لاعب على رقعةٍ خاصّةِ به، والحكَمُ هو الوحيد الذي ينقل على رقعته الوضع الكامل للعبة. يلعب كلُّ لاعبٍ حركتَهُ دون معرفةِ مواقع قِطَعِ خصمِه، ولا تُعطَى أيُّ معلومات للخصم، باستثناء عمليات الأسر إذا حدثت. يقوم كل لاعب بإبلاغ الحكَم بالحركة التي يودُّ أن يلعبها، ويقوم الحكم بإخبار كلّ لاعب بحركة خصمه. لذلك، يعتبر البعض هذه اللعبة ضربًا من الشطرنج الأعمى، الذي تلعب فيه الثقة في الحَكَم دورًا أساسيًّا. لكن أين هذا النوع من الحُكّام الثقات؟!
هذا النوع من الشطرنج يصلح للتدرّب على الحرب، ولا علاقة له بالسلام. لكنّه يبدو الأقرب إلى ما نراه في مراحل انعدام التوازن لصالح أحد الأقطاب العالميّة. إنّ سلامَ القوّة الذي يروّجُ لهذا الشطرنج الأعمى، ليس سوى اسمٍ من أسماء الإخضاع، والإرغام، والإذلال، والاستعمار، والبَيْدقة. وليس أمام البشر الأحرار إلّا أن يرفضوا بيْدَقتَهم، أن يمنحوا شطرنجهم عيونًا قادرة على إبصار ما يكفي من الحركات الموالية، كي يثبتوا أنّهم ملوك الرقعة. قال بطل الشطرنج الروسي كاسباروف (1963) في إحدى المقابلات، إنه يعتبر النقلات التي فكّر فيها، من دون أن يقوم بها على رقعة الشطرنج، جزءًا من النقلات التي قام بها فعلًا. ماذا تراه يقول، لو كانت اللعبة تدور، مثلما هو الحال، بين قِطَعٍ من لحم ودم، على رقعة من أنقاض الأحلام؟
