أعادت حرب الإبادة، التي يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني بتواطؤ ودعم من الغرب، طرح سؤال علاقة العرب بالغرب، إذ نتبيّن من صور الحرب العدوانية المتواصلة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، نوعية التحوّلات الحاصلة في طبيعة هذه العلاقة، فرغم كلّ مظاهر التوافق والتشابك والتبعية، ومختلف التحوّلات التي عرفها النظام العالمي، منذ اختفاء الثنائية القطبية وبروز الملامح الكبرى لطورٍ انتقالي، نتصوّر أنه سيعاد فيه ترتيب العلامات الكبرى لنمط جديد في العلاقات الدولية. يستعيد الغرب شعارات الحرب القائمة، ويربطها بروح السردية الصهيونية، داعياً إلى ضرورة إبادة وتهجير الفلسطينيين بكثير من العنف والغطرسة.
إذا كنّا نُسلّم بأن صراعنا الحديث مع الغرب بدأ منذ ما يقرب من قرنين، لحظة المدّ الإمبريالي التي نقلت الرأسمالية الأوروبية إلى مرحلة الغزو الخارجي، فإنه تطوّر بعد ذلك، واتخذ أشكالاً جديدة في سياق محاولة تكييفه لمصالحه، وهو يُواجه الطموحات التحرّرية، التي حملتها الحركات الوطنية في مختلف البلدان العربية. ولعلّ حضور الغرب بيننا اليوم، سواء في مظهره التقني، أو في مستويات التنظيم السياسي المجتمعي، لم يعد مسألةً اختيارية، بل تحوّل (في كثير من صوره) مُعطىً تاريخياً موضوعياً، يرسم السمات الكبرى لملامح عالم متشابه في كثير من مظاهره، إلا أنه غير متكافئ، وقد انعكس هذا الأمر في مؤسّسات المُنتظم الدولي، وعلى القواعد والقوانين المنظّمة لطرائق عملها.
نُقرّ بإرادة الغرب في الهيمنة، ونُقرّ أيضاً باستمرار نظرته الدونية للعرب، رغم أشكال التعاون القائمة بينه وبين الأنظمة السياسية العربية، ونروم من وراء هذا الإقرار تسجيل جملة من الوقائع والمعطيات الشاهدة على نمط العلاقة القائمة بيننا وبينه، ذلك أنه لم يعد بإمكاننا التفكير في إشكالية علاقتنا به خارج الإقرار الموضوعي بالمآل الذي آلت إليه الأوضاع العربية في الوقت الراهن. فكيف نواصل وضع التقابل بين العرب والغرب، ونحن نتّجه نحو رسم معالم الإسناد الغربي للصهيونية؟... نعرف أن معركتنا مع الغرب مفتوحةً، لأننا نعي أنه في أدبياته الفكرية والسياسية والحقوقية، يدافع عن العدل والحقّ، ولا يتردّد في الوقت نفسه، في عمليات وقوفه وراء الكيان الصهيوني الذي يرفع شعار إبادة الفلسطينيين، معتبراً أن المقاومة الفلسطينية فعل إرهابي، ومُغفلاً جبروت الصهاينة الذين استوطنوا أرض فلسطين، انطلاقاً من الأساطير التوراتية، واعتماداً على الوصايا التي ركّب آباء الحركة الصهيونية نهاية القرن التاسع، وساهم الغرب الأوروبي في القرن العشرين في إيجاد الصيغ المناسبة لتحويل المشروع الصهيوني إلى فعل تاريخي. وقد حصل ما أشرنا إليه كلّه في إطار حلّ ما يعرف بالمسألة اليهودية، على حساب الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
نحتاج إلى ابتكار أفعال جديدة تُمَكِّن من مواجهة صوّر الوقاحة التي تملأ بنود ما يجري الترتيب له من خطط،
نريد أن نوضّح أن دلالة مفردة عرب في حديثنا اليوم، تُشير، من جهة، إلى قوى التحرّر العربي، القوى المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية، وهي قوى لا تتردّد في إعلان موقفها من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ورفضها اتفاقيات التطبيع. وتُشير، من جهة أخرى، إلى مجموعة الدول العربية. كما أن حديثنا عن الغرب يشير إلى الولايات المتحدة واليمين الأوروبي، وإلى القوى الحيّة، التي خرجت للتظاهر في كثير من المدن الأوروبية، مُندّدةً بالعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني. ويترتّب عن التوصيف السابق أن مفردتَي عرب وغرب تحيلان إلى جمع مُركّب من معطيات متناقضة ومتصارعة، وأن جدليات الجمع المُركّب في كل طرف منهما تستدعي البحث عن كيفيات جديدة في نظر كلّ منهما إلى الآخر، ذلك أن المثاقفة الحاصلة بيننا وبين الغرب، على سبيل المثال، تدعونا اليوم إلى عدم الخلط في أثناء انخراطنا في مواجهة مواقفه من الصراع في موضوع القضية الفلسطينية.
ويجب ألا ننسى، في غمرة سؤالنا عن علاقتنا بالغرب، سؤال علاقة الغرب بنا. ومعنى هذا أن حساب العلاقة في جميع أبعادها ينبغي أن يكون مركّباً وتركيبيّاً، يبدأ بالبحث عن علاقة الذات التابعة والمتخلّفة بالغرب المنتصر والمتقدّم، وخاصّة عندما نكون على بيّنةٍ من أن قوته (في جوانب كثيرة من أبعادها) تشكّل عنصراً من عناصر استمرار تأخّرنا، وأن تخلّفنا يشكّل مناسبةً مواتية لاستمرار تقدّمه. كما يجب ألا نغفل الطابع المركّب لمعاركنا معه في الماضي وفي الحاضر، وفي ضوء ذلك نقول، لنعوّد أنفسنا على طرائق في المجابهات المركّبة، فعندما نواجه مواقف بعض مثقّفيه من الحرب الجارية اليوم، ينبغي ألا نخلط بين الانحياز الذي يُمارسه بعض مفكّري الغرب والمشروع الثقافي الغربي في مختلف أبعاده، لنصوّب نظرنا نحو أساليب الثقافة والإعلام الغربي الداعم للمشروع الصهيوني، من أجل خلخلة المنطق المتناقض الذي يحكمه.
في الصراع التاريخي طويل المدى، ينبغي الاحتراس من المواقف الحدّية والقطعية، رغم أهميتها في مجال المواقف الانفعالية
لا ينطلق تفكيرنا في الغرب من مبدأ واحدية الموقف وانغلاقه، ففي مجال الصراع التاريخي الطويل المدى، ينبغي الاحتراس من المواقف الحدّية والقطعية، رغم أهميتها في مجال المواقف الانفعالية، مجال الاستخدام السياسي للمواقف المُجيِّشة للعواطف، والفاعلة في لحظات التحوّل ذات الطبيعة السريعة والمفاجئة. وعندما نعترف اليوم أن الغرب يُعدّ جزءاً من تاريخنا المعاصر، وأن مكاسبه في الثقافة والسياسة والتقنية، تُعدّ جزءاً من مكاسب عالمنا، فإن الثنائيات المفهومية التي حدّدت وتحدّد ملامح تصوّرنا لعلاقاتنا به خلال عقود القرن العشرين، لا تعود مناسبةً لفهم أكثر تاريخية لما حصل بيننا وبينه، فقد أثمرت عمليات المثاقفة في القرنَين الماضيَين نتائجَ لا يمكن إغفالها ولا التقليل من قيمتها، ننتقد المركزية والتمركز الغربيَّين، وننتقد أيضاً، بعض السياسات العربية وأشكال انحيازها للمشروع الصهيوني، ولنحافظ في لحظات النقد على حدود ما نحن بصدده، فلا نعمّم، فالغرب متعدّد، والعرب بدورهم متعدّدون، والمعركة التي أمامنا صعبة ومركّبة.
تحتاج القضية الفلسطينية كما يحتاج المشروع الوطني الفلسطيني اليوم، في ضوء واقع الحال فلسطينياً وعربياً، وكذا إقليمياً، وفي ضوء غربٍ مشحونٍ بالسردية الصهيونية، وصانع لكثير من أوجهها وأطوارها، إلى تأمّل وفعلٍ جديدَين. نحتاج إلى ابتكار أفعال جديدة تُمَكِّن من مواجهة صوّر الوقاحة التي تملأ بنود ما يجري الترتيب له من خطط، إنها تحتاج إلى أفعالِ مقاومةٍ تتصدّى لأعطاب الذات الفلسطينية وأعطاب العروبة والنظام العربي أولاً، كما تتصدَّى، في الوقت نفسه، لكلّ ما هو مُعلن أو مسكوت عنه في المخطّطات الجديدة التي يجري إعدادها.
