امرأة قالت "لا"

منذ ١ أسبوع ٣١

لم يكن ما فعلته مهندسة مايكروسوفت، ابتهال أبو السعد (قبل أيام) خروجاً عن النصّ، بل تمسّكاً صارخاً بالنصّ الحقيقي، نصّ الأخلاق، نصّ الضمير. ففي وقتٍ صار فيه كلّ شيء يُقاس بالأرباح، وكلّ موقف يصفّى عبر مصلحة الشركة، وكلّ ضمير يُطلب منه أن يكون "مرناً"، أو أن يلتزم الصمت، قرّرت ابتهال أن تكسر القاعدة. أن تقول "لا".. لا للتواطؤ، لا للتجميل، لا لتغليف الجرائم بخوارزميات ملساء وشاشات برّاقة.

طُردت من قاعة مايكروسوفت لأنها لم توافق على بلع لسانها، لأنها ربطت بين ما تعرفه من كود وما تراه من دم. لأنها فهمت، بوضوح، أن البرمجة ليست محايدةً، وأن التقنيةَ ليست بريئة. ليست مجرّد أدوات، ليست مجرّد خدمة أو مُنتَج. هي قرارات، وأحياناً تكون حياةً أو موتاً.

عبّرت ابتهال عمّا يعرفه الجميع، ويخافون النطق به؛ أن أدوات الذكاء الاصطناعي، التي تُطوَّر داخل هذه الجدران، تُستخدم لتحديد الأهداف، لتتبع الناس، لتسهيل القتل عن بُعد. لم تكن في حاجة إلى صراخ أو خَطابة. كانت الحقيقة وحدها كافيةً لتصيبهم بالذعر. ولهذا، أُخرجت من القاعة.

لم تكن بطلةً خارقة، ولم تأتِ بخطاب مُعدّ مسبقاً. كانت تمارس أبسط ما يجب على أيّ إنسان محترم أن يفعله؛ أن يربط بين ما يفعله بيده، وما يحدث في العالم من حوله. أن يرفض أن يعزل الشيفرة عن الضحية. أن يرفض أن يكون مجرّد ترس صغير في آلة كبرى لا يسأل أحدٌ فيها عن الغاية من الدوران.

الخطر الحقيقي لم يكن في إخراج موظّفة من قاعة، بل في ذلك التواطؤ الجماعي على الصمت. في ذلك العجز المستشري عن الربط بين سطر الكود والطائرة التي تحلّق، بين الخوارزمية والبيت الذي يُقصف، بين التقنية والموت. حين نبرمج من دون أن نعرف أين ستذهب خوارزمياتنا، نكون في أفضل الأحوال جهلاء، وفي أسوئها شركاء. وحين نعرف ونسكت، نكون متواطئين حتى النخاع.

لم تصمت ابتهال. قالتها بوضوح جارح؛ مايكروسوفت شريكةٌ في إبادة غزّة. قالتها في وجه من لا يريد أن يسمع، ووسط من اعتادوا أن ينظروا في الاتجاه الآخر. لم تكن تملك سلاحاً، بل كلمة. لكنّ الكلمة حين تُقال في الظرف الصحيح تصير أشدّ وقعاً من أيّ شيء آخر.

هذه ليست قصّة موظّفة ومؤسّسة، وليست مجرّد فصلٍ وظيفي أو نقاش حول حرّية التعبير، بل قصّة وعي. قصّة شخص قرّر ألا يفصل بين "الكود" والدم، وبين العمل والضمير، وبين ما يُكتب في الشاشة وما يُكتب على الجدران بالدم في غزّة.

فأن تكون حرّاً لا يعني أن تملك وقتك، بل أن تملك قرارك، وأن تملك القدرة على قول "لا"، وأن ترفض أن تكون ترساً في آلة لا تسأل لمن تعمل، ولا ماذا تفعل. أن ترفض، حتى لو دفعت الثمن، حتى لو كان الثمن هو عملك، راتبك، منصبك، مستقبلك المهني. لأن بعض الأثمان لا تُقاس بما يُخصم من الراتب، بل بما يُضاف إلى وجودك من احترام.

وهنا، تصير البرمجة، على سبيل المثال الحاضر، فعلاً أخلاقياً، ليست مجرّد كتابة أوامر، بل اختيار. اختيار أن تكتب "الكود" بضمير، أو أن ترفض كتابته أصلاً إذا كان سيسهم في قتل إنسان. أن ترى أن الشيفرة ليست معادلةً صمّاء، بل قرارٌ أخلاقيّ، له امتداداته وآثاره ومسؤوليته.

ابتهال لم تكن تحاول أن تكون أيقونة، لكنّها صارت كذلك، لأنها فعلت ما لا يجرؤ عليه كثيرون، لأنها نظرت إلى المعادلة كلّها، وقالت: هذا لا يمكن أن يُبرَّر، لا بالتكنولوجيا، ولا بالإعلام، ولا بأيّ لغة، لأن القتل لا تُجمّله واجهةُ مستخدم أنيقة، ولا يمحوه خطابٌ صحافيٌّ منمّق.

هي لحظة فاصلة، تُذكّرنا أن العالم لا يتغيّر عبر قرارات كبرى فقط، بل أحياناً من وقفة صغيرة، وسط قاعة، في مدينة بعيدة، من شخص واحد فقط، قرّر ألا يصمت.

قراءة المقال بالكامل