جزيرة غرينلاند.. 200 عام في دائرة أطماع واشنطن التوسعية

منذ ١ أسبوع ١٧

حين بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ عام 2019 طرح شراء غرينلاند من الدنمارك صاحبة السيادة عليها ضمن كومنولث يتكون منها ومن الجزيرة الجليدية الضخمة في القطب الشمالي، وجزر الفارو الأطلسية الصغيرة، لم يكن بمعزل عن رغبات أميركية وقراءة مكانتها الاستراتيجية منذ تقريبا 200 عام.

طرح ترامب الجديد - القديم لم يعد يُجابه فقط من قبل رئيسة حكومة كوبنهاغن ميتا فريدركسن، بل بمشاركة أحزاب شعب الجزيرة الصغير، وهم ينتخبون غدا برلمان حكمها الذاتي بعنوان: "غرينلاند ليست للبيع". يأتي ذلك وسط أزمة غير مسبوقة لكوبنهاغن منذ بداية استعمارها الجزيرة مع وصول ثلاث سفن حملت مبشرين في العام 1721.

عيون أميركا القديمة على غرينلاند

جغرافيا، يحسب المتخصصون جزيرة غرينلاند (نحو مليوني كيلو متر مربع و56 ألف نسمة) على أميركا الشمالية. وتقول بعض الدراسات إن شعب الإنويت، وصل منها قبل آلاف السنين. ومبكرا جدا، وأبكر حتى من إبداء الرئيس السادس والعشرين للولايات المتحدة الأميركية (1901 إلى 1909) ثيودور روزفلت رغبته في عام 1903 شراء مستعمرات الدنمارك في جزر الهند الغربية، مقابل اعتراف بسيادة دنماركية على غرينلاند.

منذ عام 1832 نُظر إلى غرينلاند بوصفها منطقة جيوستراتيجية مهمة، ما دفع الرئيس أندرو جاكسون (1829-1837) إلى طرح مبادرة شراء الجزيرة، تزامنا مع حمى شراء الولايات المتحدة ولاية لويزيانا من فرنسا (1803)، وولاية فلوريدا من إسبانيا (1819)، وولاية ألاسكا من روسيا (1867). وذهب وزير الخارجية الأميركي في ستينيات القرن التاسع عشر، ويليام إتش سيوارد (1861-1869) إلى إحياء الفكرة، معربا عن اعتقاده بأن ضم غرينلاند وأيسلندا سيكون "جديرا بدراسة جادة"، لأسباب سياسية وتجارية.

عسكرة دون موافقة الدنمارك وشعب غرينلاند

في عام 1941 أسست واشنطن موطئ قدمها العسكري الأول في غرينلاند. إذ بعد نحو عام على الاحتلال النازي للدنمارك (1940)، وقع سفيرها في واشنطن آنذاك، هنريك فون كوفمان، على بناء قواعد أميركية فوق الجزيرة. فبنيت على الفور القواعد والمحطات البحثية والأرصاد الجوية لمنطقة القطب الشمالي، وبمسؤولية نحو 6 آلاف عسكري ومدني أميركيين، أي حوالي ربع سكان غرينلاند حينها (حوالي 21 ألف نسمة).

اعتقدت كوبنهاغن أن نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) ستضع حدا للعسكرة الأميركية في غرينلاند. اعتقاد سيكشف أنه ليس في محله، وفقا للوثائق الدنماركية. وبحسب الباحث الدنماركي في جامعة آرهوس (وسط) ماتياس هيمان، الباحث الرئيسي في مشروع "استكشاف غرينلاند"، فإن وزير خارجية الدنمارك بعد الحرب غوستاف راسموسن زار واشنطن لبحث الانسحاب في عام 1946، فوجد نفسه أمام عرض شراء الجزيرة لقاء 100 مليون دولار.

الأميركيون اعتبروا في عام 1947 أن غرينلاند  بالنسبة لهم هي "أكبر حاملة طائرات في العالم". كما تشير بعض الوثائق إلى أن بناء الأميركيين لقاعدة ثولا في 1951 وسط اندلاع الحرب الباردة لم يكن على الدوام برضا دنماركي. وخشية الوقوع في مشكلة مع السوفييت كانت كوبنهاغن تتحدث عنها بوصفها قاعدة أبحاث علمية. بينما لعبت دورا ضخما في التجسس على السوفييت.

كذلك فإن الدنمارك لم توافق ولم تعلم بداية بوجود نحو 200 قنبلة وصاروخ نووي في ثولا، حيث صدمت في مطلع عام 1968 حين انفجرت قرب القاعدة قاذفة بي 52 محملة بأربع قنابل نووية. لحسن حظ السكان الأصليين أن تلك القنابل لم تنفجر. وبدون موافقة الدنمارك أيضا بنت واشنطن في 1958 على بعد نحو 200 كيلو متر من ثولا أخطر وأكبر القواعد العسكرية المسمى "معسكر سينشري" تحت السطح الجليدي وعلى مساحة 55 هكتارا، وضم مفاعلا نوويا.

لم يتصرف الأميركيون من وراء ظهر ساسة كوبنهاغن فحسب، بل لم يكترثوا برأي السكان الأصليين في مجتمع الإنويت، الذين ارتفعت شكواهم منذ الانفجار قرب ثولا وحتى اليوم عن انتشار أمراض وآثار جانبية عليهم وعلى بيئتهم، وسط مطالب أحزاب دنماركية للكشف بالتفصيل عن الوثائق وحقيقة ما إذا جرى تسرب إشعاعي.

عموما، لم تتوقف رغبة أميركا بتملك غرينلاند حتى بعد تحالف الجانبين تحت مظلة حلف شمال الأطلسي (ناتو) منذ 1949.وكشفت وثائق أفرج حديثا عن أجزاء منها أن ملك الدنمارك الأسبق فريدريك التاسع تعرض لضغوط أثناء لقائه مع الرئيس الأسبق دوايت أيزنهاور في 1960، لكنه رفض التنازل عن الجزيرة. وحتى مع تخفيف واشنطن وجودها فوق غرينلاند بعد انتهاء الحرب الباردة 1992، إلا أنها لم تنهه تماما، ولم تصرف النظر عنها، ليس وجودا عسكريا فحسب، وهو متزايد من الحرب الأوكرانية وعسكرة القطب الشمالي، بل لما تحتويه الجزيرة من مواد خام مهمة، بما في ذلك اليورانيوم.

إذا، طرح ترامب مجددا الاستحواذ على غرينلاند يرتبط بسلسلة تاريخية طويلة ومعقدة من علاقة واشنطن بها. ورفض رئيسة حكومة كوبنهاغن، فريدركسن، العرض الأميركي، ليس بمعزل اليوم عن أن ساسة غرينلاند وأحزابهم أكثر حضورا للتعبير عن شعب الإنويت وحقه في أن يقرر مصيره بنفسه، لا أن يباع ويشترى هو وأرضه التاريخية.

قراءة المقال بالكامل