إنها حكايتنا الكبرى:
قضت الخلافة العثمانية نحبها في الحرب العالمية الأولى، بسوء تقديرٍ على الأغلب، وانعدام بصيرة، وشيخوخة، وهي من أطول الممالك عمراً، وللدول مثل البشر أعمار، فتورّطت في الحرب، واختارت الوقوف إلى جانب الألمان الذين خسروها، فخسرتها معها، وكانت حاملاً بأكثر من عشرين جنيناً عربيّاً، وأجنة أخرى، فتكالب عليها المنتصرون تكالب الأكَلة على القصعة، وأجروا لها عملية جراحية بالخناجر، فسرقوا أجمل الأجنّة وأوسطها، ودسّوا بينها مولودهم (يشبه فيلم "التوأمان" الهندي)، الذي غذيّ بالهرمونات، فشبَّ بين إخوته في الرضاع، وكان يشبّ في يوم ما يشبّه غيره في سنة، أمر يشبه معجزة صبي تكلم في المهد. ومن وجه آخر، حكاية طائر الوقواق، الذي يضرب به المثل في الانتهازية، وهو طائرٌ لا يقع على أشكاله، في مخالفة للمثل الشهير، ويكسل عن رعاية بيضه، فيدسُّه في أعشاش الطيور حتى ترعاه له، فيردي الفرخ المدسوس مضيفيه ليخلو له وجه أبويه، يأكل أكل ثلاثة فراخ بذي مرخ، ولو استطاع لأكل أبويه الجديدين أكلا.
علم إخوة المدسوس قربه ومنزلته من الأم الست، بعد موت أمهم، فعملوا على مراضاته ومحاباته، وإيثاره بالحلوى، ثم ما لبث أن صار المولود الأثير محصنًا بقوة نووية، وهو يسرق طعامهم، ويصرع جميع إخوته. يمكن القول إن بريطانيا التي ضعفت بعد الحرب العالمية الثانية، فتبرّعت بموقعها ومستعمراتها لأميركا، وهبت مع المولود عشرين مولوداً هدية، "قطع تبديل" و"سبير بارت"، يصونون المخلوق العجيب، الخارق المتقدم في العلم والزراعة والفلك والتجسس والسطو والبطش، ويكلؤونه برموش أعينهم خوفًا من غضب الأم الجديدة أميركا، حتى إذا اشتكى من المحروس عضوٌ تداعوا بالسهر والحمّى.
ثمّة فيلم أميركي اسمه "الجنين" إنتاج 1976، سنتذكّره لمناسبة حكاية "الأخ" العجيب، يروي قصة عالم في الهندسة الوراثية (روك هدسون) يصدم كلبة، فينقذ جنينها، فيشبُّ الجنين المغذّى بالهرمونات بسرعة، وتظهر عليه علامات الوحشية والنجابة، حتى أنه يكاد يقرأ ما يجول في رؤوس البشر، ثم يخطر للعالم أن يجري تجاربه على جنينٍ بشري، فينقذ جنيناً، ويغديه بالهرمونات، فيشبُّ ويكبر في أسابيع ما يكبره أترابه في عقود، ما يلبث العالم شهراً حتى يجد في بيته امرأة كاملة، حسنة القوام، أمر يشبه أسطورة بجماليون من وجه، ومن وجه آخر قصة فرانكشتاين، فيحبها، ويقضي وطره منها، فلا بد في كل فيلم أميركي من نيل الأوطار، ثم ما تلبث "المخلوقة"، وهذا أحد أسماء الفيلم البديلة التي راج بها في دول أخرى، وله اسم ثالث هو "نسل الشر"، وهي امراة شديدة الذكاء، إن استشعرت دنوّ أجلها، أن تسطو على أجنّة الأمهات في مشفى العالم، ربها، حتى تستلب منها ما ينقصها، فيدرك "ربها" الطبيب سوء نيّتها، ويدركها بعد أن يتغلب على الكلب - أخوها الذي ولد في رحم الأحواض الزجاجية - الذي يحوطها ويصونها، فيضبطها متلبسة بقتل أم لاستنقاذ نفسها بجنينها من الشيخوخة، فينكر عليها فعلتها، فتقول: أنا معذورة، هي تستطيع أن تنجب مرة أخرى، أما أنا فليس لي سوى هذه الحياة، فيجادلها قائلًا: لكنها أم، وهذا ابنها، ولهما حق الحياة. يحاول قتلها، حتى يجنب نسلها من تكرار المأساة، فتصارعه، فتقتل صاحبه، وتفرُّ منه، فيلحق بها، ويحاول خنقها وقد شاخت وابيَضَّ شعرها وجعد جلدها، فيغيثها الناس ويستنفذونها منه. ثمة نسخ أخرى للفيلم، لكن هذه النسخة أقرب لما يجري الآن في غزة، ونحن نقرأ تقارير صحافية عن خطف سليلة الأحواض الزجاجية مئات الجثث للاستفادة من أعضائها وجلودها.
تقول نبوءات كثيرة إن "فكتوريا" التي لا تقهر قد شاخت، ولم يبق من عمرها سوى سنة أو سنتين، فيما سمّيت "لعنة العقد الثامن"، وهي نبوءة يؤمن بها كثيرون من أبناء فكتوريا، وإنَّ المولود الخارق، الذي زرع أمثاله من الوقاويق في عروش الجوار، أو أنهم اتموا به، يوسع عشه، ويبحث عن هرمونٍ يطيل به عمره، وهو يقتل كل من يمنعه من غايته "النبيلة"، ومذعور من الحكم الجديد في سورية كل الذعر.
