حين نقرأ عنوان كتاب الروائي المصري طارق إمام "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها" (دار الشروق، 2024) نفهم فوراً أنَّ علينا الخروج من حرفية العبارة. الأقاصيص هنا هي الأقاصيص، لكنّ الأعمار لا تقاس بالسنوات، بل بالرجوع إلى الأقاصيص، والأبطال ليسوا أبطالاً إلا فيها. سر العبارة هو هذا، وربّما فتنتها أنَّ لها موضوعها هي وزمانها هي. نبقى في المحلّ نفسه حين نقرأ عنوان الرزمة الأولى من الأقاصيص "لأننا نولد عجائز"، فالولادة عجائز تحيلنا إلى زمان آخر، إلى غير الزمن الذي نعرفه.
هكذا نفهم الاستشهاد الذي يقدّم للأقاصيص "إننا لا نعيش في الواقع إننا نزوره". التزوير هنا مرادف للخلق، إن لنا واقعاً آخر نخترعه "رأيت نهراً ورجل شرطة، كلاً منهما يتأمل الآخر" ذلك يحدث حينما "جربت أن أطرق الباب من الداخل" "الأطفال الذين يركلون الكرة، لا يعرفون أنهم يركلون العالم"، أما ذلك الذي غادر الفيلم قبل إكماله، فلا يعرف أنه سيقابله في اليوم التالي. كذلك الضرير "لأن عيني العالم كفتا عن رؤيته".
العالم هو الضرير، وفيلم البارحة يعود في الغد، وكارهو الطبيعة يعتقدون أنهم حَبسوا الهواء عن الأشجار. في كل ذلك تكون الأشياء عكسها، أو غيرها، أو فوق طاقتها. لكن هذه الأطوار ليست بالضرورة تزويراً، بقدر ما يمكن أن تحمل حقيقة جديدة، كأن قلب الواقع نوع من تحريره وإفلاته إلى حدود قصوى. هكذا نصل إلى فضاء آخر، ليس فقط ضدياً، بقدر ما هو حبلى بمعانٍ تركب بعضها، وتخرج بعضها من بعض. حين يقول "أنا طريق"، وحين يذكر "استيقظنا ذات صباح شخصاً واحداً"، وحين يقول "إن هاتين العينين، ليستا سوى عينيه، وقد أطلتا عليه من وجه امرأة" نفهم أن الغرابة ليست وحدها المقصودة. إننا أمام أطروحات عن الأنا والآخر، عن الفرد والجماعة. إننا أمام أفكار تلوح من وراء هذا التغريب. إن المفاجأة هنا ليست فقط باللعب بالصور، فهذا اللعب يطل على رؤى وإشراقات أخرى.
أقاصيص تقلب الواقع من أجل تحريره وإفلاته إلى حدود قصوى
لا يمكن الاكتفاء بالكلام عن فانتازيا، أو استذكار أقاصيص بورخيس الفانتازية، فانتازيا طارق إمام هي بالدرجة الأولى صور. صور أو كلام بالصور وأفكار فيها. يمكننا هكذا أن نفكّر بأن في الكلام نوعاً من التبعيد، أن المسافة بينه وبين واقع غامض هي ما يدعونا إلى أن نفكر بالشعر. اللعب والإضمار والمجانية والاستعارة، كل ذلك يظلّ يلح علينا، بحيث يخطر أن هذه الطريقة بالقول واللعب والتفكير، تعود، على نحو ما، إلى الشعر. لذا لا نُفاجأ حين نقرأ فصلاً كاملاً بعنوان "هايكو المدينة". هنا تصريح بطبيعة الكلام، إنه شعر. إن له تركيب الشعر، بل النسق الهايكاوي تقريباً.
نحن هنا أمام أبيات أغلبها ثلاثة في المقطع الواحد، هكذا نقرأ شعراً بلا ريب، ربما لم يكن ما سبقه شيئاً آخر، وإن يكن بنسق آخر. قد يخطر أن الأقاصيص تحمل ما تحمله إحداها في عنوانها "قصيدة". إنها قصائد أو هي، لنحافظ على العنوان، أقاصيص/ قصائد، أو أنها من بعيد قصائد نثر.
"المسمار قديم في رغيف الخبز" منذ أن كان نعشاً "الليل يكون مستيقظاً/بنجوم مضيئة فوق أكتاف الضابط" في هذه الاستشهادات نفس الصلة القلقة في الشعر، بين شذرات الواقع والصور المقابلة. هناك الذكرى البعيدة فتحت عنوان "موت الأب". أما في "نحن معاً رجلان أنجب أحدهما الآخر"، فسنجد هنا ما يمكن أن يكون مرثية لأخيه هشام، تحية لابنته كرمة.
في ذلك "بكت عمرها/ ذرفت الناس" هناك السخرية التي تجد صورة "العثور على جثة شخص في ثلاجة فيما يبحث عن بيضة". هناك صور مقابل تعابير شعبية كتلك التي وردت في "حخلي وشك شوارع" "مدينة خالية بقطع ملامحك". هناك ما يشبه سيناريو، ما يبدو حكماً وربما مقولة. حين يقول عن الماضي إنه "ذبابة على أنف الحاضر".
* شاعر وروائي من لبنان
