"لا يوجد مكان للاختباء في هذه الأرض، فقد اقتُلع كلّ شيء حتى الظلال". ... من رواية "بينما ينام العالم" للفلسطينية سوزان أبوالهوى.
بينما تتواصل أحداث النكبة الفلسطينية في ثوبها الجديد؛ فالنكبة لم تنتهِ عند تهجير الفلسطينيين من أرضهم عام 1948، بل بدأت منذ ذلك الحين، لتفرض واقعاً يومياً على حياة الإنسان الفلسطيني، حتى تصل إلى مرحلة جديدة يكون فيها عزل الفلسطيني ونزع أرضه وتاريخه وهُويَّته أمراً واقعاً. فعلى مدار ما يزيد على عام عبر حملة عسكرية شرسة قتلت عشرات الآلاف من سكّان غزّة، بشهادة أحدث تقرير صدر من منظمة العفو الدولية (Amnesty)، التي تحمل مصداقيةً عالميةً واسعة النطاق والأثر، والصادر في 5 ديسمبر/ كانون أول 2024 ، وحمل عنواناً صريحاً "بتحسّ إنك مش بني آدم... الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة"، ويُوثّق التقرير فتح إسرائيل "أبواب الجحيم والدمار على الفلسطينيين في قطاع غزّة، بصورة سافرة ومستمرّة، مع الإفلات التامّ من العقاب"، وصرّحت الأمينة العامّة لمنظّمة العفو الدولية: أنياس كالامار: "يثبت تقرير منظّمة العفو الدولية بوضوح أن إسرائيل ارتكبت أفعالاً تحظرها اتفاقية منع الإبادة الجماعية، بقصد خاص ومحدّد، وهو تدمير الفلسطينيين في قطاع غزّة، وتشمل هذه الأفعال قتل الفلسطينيين في قطاع غزّة، وإلحاق أذى بدني أو نفسي بهم، وإخضاعهم عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرهم المادّي، وعلى مدى شهور، ظلّت إسرائيل تعامل الفلسطينيين وكأنّهم فئة دون البشر لا يستحقّون حقوقاً إنسانيةً ولا كرامةً، وأظهرت أنَّ قصدها تدميرهم المادّي".
فيد التقارير الدولية المستقلة بأن التدمير الجاري في قطاع غزّة ليس عملاً عشوائياً، بل عمل مقصود ومخطّط
وجدير بالذكر أن وزارة الخارجية الألمانية قد رفضت ذلك التقرير الحقوقي الدولي تماماً، وأكّد متحدّثها الرسمي "أن إسرائيل تتصرّف دفاعاً عن النفس في مواجهة حركة حماس التي بدأت هذا النزاع عبر هجماتها الإرهابية"، الأمر الذي يوحي بفكرة تصوير بعض القوى والدول الغربية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كأنّه وليد لحظة 7 أكتوبر (2023) فحسب، وليس له جذور حاضرة وراهنة وتاريخية، وبالتالي (في نظرهم) ليس ثمّة مظالم أو انتهاكات يمكن رؤيتها.
ويجادل زعماء الدول الغربية (من دون مواربة) بأن العدوان الإسرائيلي لا يمكن اعتباره إبادةً، وعلى سبيل المثال (لا الحصر) فإن كلّاً من وزير الخارجية ورئيس الوزراء البريطانيين قد أكّدا أن ما يجري في غزّة من سفك للدماء ليس إبادةً جماعيةً، بينما يعتبران الهولوكوست إبادةً، وهذا بنظرهما ليس متحقّقاً في العدوان على غزّة، بل إن مُجرَّد التقدّم للمحكمة الجنائية الدولية للبحث والتقصي حول ما يجري في غزّة مرفوض من جانب مسؤولين غربيين عديدين. فوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن كان قد رفض قبول المحكمة النظر في دعوى الإبادة ضدّ الفلسطينيين في غزّة، قائلاً في مؤتمر صحافي له في تلّ أبيب، "تهمة الإبادة الجماعية لا أساس لها من الصحّة. إنه أمر مزعج".
وإذا كانت مسألة التهوين في توصيف العدوان الإسرائيلي سياسةً متّبعةً في الأوساط الرسمية الغربية والأميركية، فإن الاستماع للجهات والمؤسّسات القانونية والأممية المستقلة أوضح الأسانيد على حقيقة المعاناة والإبادة المنهجية في قطاع غزّة. وعلى سبيل المثال، يؤكد تقرير "العفو الدولية" أن "مُجرَّد النظر إلى الفلسطينيين طرفاً يمكن التخلّص منه أو أنهم غير جديرين بأيّ اعتبار، هو في حدّ ذاته دليل على قصد الإبادة الجماعية"، وهذا بحدّ ذاته تفنيد صريح لمعنى الإبادة الذي يتّخذه القادة الغربيون نموذجاً ومقياساً.
وعلاوة على ذلك، أكّدت المادّة السادسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن الإبادة الجماعية تعني "أيّ فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلّياً أو جزئياً:
قتل أفراد الجماعة، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلّياً أو جزئياً". وهو الأمر الذي أفضى إلى إصدار المحكمة الجنائية الدولية (21/11/2024) مذكّرتي اعتقال بحقّ كلّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير أمنه السابق، ويصل التحيّز والعمى عن الجرائم الجارية إلى الحدّ الذي يصف فيه المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي "الخطوات التي اتخذها الجيش الإسرائيلي لمنع سقوط ضحايا من المدنيين الفلسطينيين في غزّة قد تذهب أبعد ممّا كانت ستفعله الولايات المتحدة لو كانت في مكان إسرائيل"، فهو يُثني على الممارسات الإسرائيلية التي حدّدت مناطق آمنة لإيواء النازحين؛ ولكن هذا الزعم الأميركي يتهاوى من خلال الواقع العياني المزري، كما صرّحت بذلك ناتالي بوكلي، نائب المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، عندما قالت في إحاطة لها للجمعية العامة للأمم المتحدة (17/11/2024): "لا يوجد مكان آمن في غزّة، لقد طلبت السلطات الإسرائيلية من الناس الانتقال إلى الجنوب. ومع ذلك، لم ينج أيّ جزء من قطاع غزّة من القصف"، ورفضت بشدّة فكرة الملاذات الآمنة واعتبرتها "غير صائبة".
وجاء تقرير منظّمة هيومان رايتس ووتش (14/11/2024) ليؤكّد أن "نظام الإجلاء الإسرائيلي قد ألحق ضرراً بالغاً بالسكّان، وغالباً ما كان هدفه بثّ الخوف والقلق فقط، بدلاً من ضمان الأمن للمدنيين النازحين، وضربت القوات الإسرائيلية مراراً وتكراراً طرق الإجلاء والمناطق الآمنة المحدّدة". وعلّقت باحثة حقوقية في تلك المنظّمة على التقرير بقولها: "لا يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تدّعي أنها تحافظ على أمن الفلسطينيين عندما تقتلهم على طول طرق الهروب، وتقصف ما تسميها مناطق آمنة، وتقطع عنهم الطعام والمياه والصرف الصحّي".
ويبدو واضحاً أن ثمّة استراتيجية حربية أميركية تطبّقها إسرائيل في حربها على غزّة وسكّانها، وهي التي أشار إليها إدوارد سعيد، عندما تحدّث عمّا سمّاه نيكسون: "نظرية الرجل المجنون الحربية" سنة 1970؛ وبناءً على هذه النظرية هدّدت الولايات المتحدة خصومها بالتصرّف بشكل لا عقلاني، وهو ما تطبّقه إسرائيل في علاقتها بجيرانها، إذ سيطرت فلسفة القوة الطاغية، ونشر الرعب والذعر، وعدم التزام أيّ خطوط حمراء، أو مراعاةٍ لقيم حقوقية وإنسانية، وهو ما تجلّى في تصريح المسؤولة الأممية في "أونروا"، ناتالي بوكلي، قائلة: "الوضع في غزّة مزرٍ، لقد نزح 1.6 مليون شخص، من أصل ما مجموعه 2.2 مليون شخص. وهو أكبر نزوح للفلسطينيين منذ عام 1948، حجم الدمار والخسارة مذهل، لقد سُوِّيَت أحياء بأكملها بالأرض، وتفيد التقارير بأن أكثر من نصف الوحدات السكنية في غزّة قد دُمّرت".
وبرغم تلك التقارير والقرارات الدولية، ومسلسل الإبادة والتدمير الذي يشاهده الجميع، لا توجد قوة قادرة على تغيير الممارسات الإسرائيلية، بل تُبرَّر تلك الممارسات، علاوة على نزع حقّ المقاومة من الفلسطينيين، وينظر إلى مقاومتهم إرهاباً، وموتهم باعتباره نتيجة طبيعية لممارسة إسرائيل حقّ الدفاع عن نفسها، بل وصل الأمر إلى إعفاء القاتل وتحميل المقتول مسؤولية مقتله.
استراتيجية الرجل الأبيض تفرض رؤيتها الأحادية لتاريخ المجتمعات التي أخضعها اقتصادياً وعسكرياً
وتفيد التقارير الدولية المستقلة بأن التدمير الجاري في قطاع غزّة ليس عملاً عشوائياً، بل هو عمل مقصود ومخطّط له من أجل بناء علاقات مكانية جديدة، بحيث يُعزل السكّان وتُحدَّد حركتهم وحرّيتهم، على غرار تجربة معازل المدن أو "Townships" في مرحلة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، حيث كانت معازل المدن تضمّ غير البيض فقط، حيث الفقر والمعاناة والمرض وعدم القدرة على مغادرة المكان. وكان المفكّر الكاميروني والأستاذ بجامعة جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، البروفيسور أشيل إمبيمبي، وهو أحد أهم باحثي نظرية ما بعد الاستعمار في الوقت الراهن، قد استفاض في وصف تجربة الاحتلال العنصري لقطاع غزّة والضفة الغربية، فيرى أن هذا الاحتلال قد عمل على جعل كلّ حركة مستحيلة عبر تقسيم الأراضي المحتلّة بين شبكة داخلية معقدة، وهو فصل عنصري متعمّد مصحوب بمستويات معقّدة من الرقابة على السكّان طوال الوقت، بل إن إمبيمبي يصل إلى نتيجة مهمّة عندما يؤكّد أن في هذا النمط الاستعماري تكون المعركة فوق الأرض وتحت الأرض، إذ يسعى الاحتلال للهيمنة القمعية على كل شيء، باستخدام التقنيات في السماء وتحت الأرض وفوقها. وكأنّ إمبيمبي يصف حال العدوان على غزّة اليوم بقوله عن تقنيات هذا النمط الاستعماري: "يصبح السكّان أهدافاً للاحتلال، فالقرى والمدن محاصرة، بل منعزلة عن العالم، والحياة اليومية تُعسكَر وتُجعَل خاضعةً للأعمال الحربية، وتُطلَق يد القادة الميدانيين بحرية لقتل من يشاؤون، ويصير القتل العشوائي جزءاً من عملية الإعدامات الصريحة".
وبشكل عام، فإن العدوان الإسرائيلي نجح في تدمير النظام الاجتماعي في كلّ قطاع غزّة، حتى أصبح مُجرَّد أن يعيش الإنسان في القطاع معجزةً تضاف إلى حسن حظّه بأنه لم يُقتل أو يُصب بعد؛ رغم أنه قد يكون في الغالب نزح عشرات المرّات من محلّ إقامته إلى الحياة في ظروف غير إنسانية. وإذا كان الأمر كذلك، لماذا يتجاهلون جراحنا؟ لماذا يعدّون العقوبات لمن ينتهك حقوق الإنسان، بينما لا يعتدّون بوجود الإنسان في قطاع غزّة؟... يمكن الإمساك بخيوط الإجابة على حالة العمى والتجاهل في إطار العودة إلى السياسات الأميركية باعتبارها الركيزة الأساسية لدعم ممارسات إسرائيل وتبريرها، ونجد هنا تشديد إدوارد سعيد على تغلّب المجتمع السياسي الأميركي على المجتمع المدني الأميركي، ومن ثمّ نجاح المجتمع السياسي الأميركي في عملية محو التاريخ، وهي كما قال: "ممارسة أصبحت شائعةً في كلّ مكان في المجتمع الأميركي اليوم"، فالسردية المنتصرة تمحو سردية أصحاب الحقّ المغلوبين على أمرهم، وهو ما حدّده سعيد بقوله عن معنى تلك الرؤية بأنها "تصوّر الفلسطينيين، ببساطة، شعباً ظهر إلى الوجود منذ عهد قريب إلى حدٍّ ما، وليس له تاريخ من الاقتلاع والتشرّد والاضطهاد المستمرّ من جانب إسرائيل والصهيونية"، فالمسألة كما يفهمها سعيد ليست مُجرَّد اعتداء على وجود الفلسطينيين الإنساني، بل هي اعتداء على التاريخ نفسه، وهو الأمر الذي شرحه الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، عندما تساءل عن مدى استعداد المجتمع اليهودي للكفّ، سواء باسم تاريخ زائف أو بواسطة بيولوجيا خطيرة، عن تفخيم الذات وإقصاء الآخر من داخله؟
وكان باكراك وبارتز، عالما السياسة في مجال دراستي السلطة والقوة، قد تناولا بالتحليل فكرة تعبئة التحيّز التي تقوم على استبعاد موضوعات بعينها أو فاعلين محدّدين من دائرة الاهتمام، "الأمر الذى يترتّب عنه حرمان جماعاتٍ معينة أن تحقّق أهدافها ورغباتها ما دامت المسائل التي ترتبط بحياتها تتحوّل لا مسائل، والقرارات لا قرارات"، وهو الأمر الذي يثبت أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس مُجرَّد صراع على الأرض والموارد وحقوق السكّان الأصليين، بقدر ما هو صراع على التاريخ والخطاب والمعنى من أجل حجب الرؤية الواضحة لحقيقة ما يجري؛ إذ يُؤوّل ما يجري عن عمد على غير الحقيقة، فتُحوّل المقاومة إرهاباً، والإبادة دفاعاً عن النفس، والفلسطيني صاحب الأرض لاجئاً لا أرض ولا وطن له.
تغليب المعايير المزدوجة ليست ممارسةً سياسيةً عابرةً، بل هي منهجية مركزية في مناطق وقوى ثقافية وسياسية ودينية رئيسة في المجتمعات الغربية، وهو ما قدّمه بيتر غران في دراسته تاريخ مدينة أسيوط، فاعتبرها نموذجاً للمدن التي يجري تجاهلها، بل وعدم رؤيتها، وكأنها غير موجودة، فربط بين ذلك التجاهل ونمط الاتجاهات والبحوث الأنكلوساكسونية، التي تنظر إلى الشرق مجتمعاً مستبدّاً وراكداً، ومن ثمّ فهو أطراف نائمة وغير مرئية، وينظر بيتر غران إلى تلك الاتجاهات باعتبارها جزءاً جوهرياً من نمط فكري وثقافي محدّد "فبالرجوع إلى الكتابات المبكّرة للباحثين الأنكلوساكسونيين حول أفريقيا والعالم الجديد، في هذه الكتابات، غالباً ما تغاضى الباحثون عن النقل القسري (وتجارة) للعبيد وعمليات القتل، وما كان يشغلهم هو إنجازات مواطنيهم، أولئك الذين قدّموا الديمقراطية وسيادة القانون، وبذلك حاولوا أن يروّجوا أنهم حاملون للحضارة، أي أنهم الأشخاص الذين ينفّذون إرادة الله. ووفقاً لتلك الرؤية، لم يكن الذين قُتلوا من جرّاء أعمال الرجل الأبيض أشراراً، بل كانوا في الجانب الخطأ من التاريخ، بالرغم من أنهم أُناس طيّبون، فالثقافة الأنكلوساكسونية، بحسب بيتر غران، تتمحور حول الرجل الأبيض، وإذا كان شعب الله يتبع أوامره ومات آخرون، فلا أحد يتحمّل مسؤولية تلك الوفيات.
نجح العدوان الإسرائيلي في تدمير النظام الاجتماعي في كلّ قطاع غزّة، حتى أصبح مُجرَّد أن يعيش الإنسان في القطاع معجزة
ويرى غران أن سِفر الخروج يحتلّ مكانةً رئيسةً في الفكر الغربي، وليس المسيحي فقط؛ فبالنظر إلى ما فعله الأنكلوساكسونيون، ليس من المستغرب أن يُصبح هذا السِّفر وطريقة تأويله جزءاً مركزياً من تراثهم، الذي أصبح بدوره جزءاً من تصوّرات الغربيين عن أنفسهم باعتبارهم غربيين، إذ يجري تجاهل موضوعات بعينها، والتصالح المشوّه مع تاريخ المجتمعات الطرفية واعتبار روايتهم ورؤيتهم عنها هي الصحيحة، فتظهر تلك الرؤية الاستشراقية بوضوح في حالة إسرائيل ويرونها واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان، ولها الحقّ المطلق في إقامة وطن قومي لليهود، بينما يرون العرب والفلسطينيين مستبدّين ومعادين لحقوق الإنسان والنساء والأقليات، وعليهم أن يستوعبوا الفلسطينيين في بلدانهم.
استراتيجية الرجل الأبيض تفرض رؤيتها الأحادية لتاريخ المجتمعات التي أخضعها اقتصادياً وعسكرياً، حتى في أفضل الصور الغربية النقدية التي انتقدت المجتمع الرأسمالي الحديث مثلما فعلت النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت، فإنها فضّلت الصمت في مسألة العالم الثالث، أو كما ينقل إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية" عن هابرماس قوله: "ليس لدينا ما نقوله للصراعات ضدّ الإمبريالية وضدّ الرأسمالية في العالم الثالث". ولم يكن تراث هابرماس عن ضرورة الفعل التواصلي والحوار من أجل مجتمع كوزموبوليتاني ومفتوح، متعدّد الهُويَّات والأعراق، ليصمد أمام تضامنه مع إسرائيل؛ فهو لا يفهم معنى أو ضرورة المقاومة عند غير الأوروبيين، فيمنح الشرعية للاحتلال الاسرائيلي في الانتقام الجمعي من مواطني غزّة. ووفقاً للخطاب الذي وقّعه هابرماس برفقة ثلاثة من الباحثين الألمان، يعملون في جامعة غوته ومعهد ليبز للسلام ثمّة "مبادئ لا يمكن نفيها أو نقضها، وتقوم على أساس التضامن المفهوم بصدق مع إسرائيل، واليهود في ألمانيا"، وفي إطار ذلك يفهم العلماء الأربعة أن الانتقام الإسرائيلي كما قالوا "مُبرّرٌ من حيث المبدأ". إن تاريخ الرجل الأبيض ووعيه بأهميته ومركزية دوره يفرضان معايير محدّدة للوعي بأوجاع المقموعين، وتفسيره آلامهم، ومعنى إبادتهم التي لا يبالي بها في أحيانٍ كثيرة، وهو الأمر الذي يتفق مع ما صرّح به كريم خان لشبكة سي أن أن الأميركية: "إن بعض السياسيين تحدّثوا معه، وكانوا صرحاء للغاية، وقالوا: هذه المحكمة أنشئت من أجل أفريقيا ومن أجل السفّاحين مثل بوتين". فالعدالة الحقّ في هذا العالم لا يمكن أن تحدث في نضال بين طرفين أحدهما عنصري أبيض.
