ليست "الفتنة الكبرى" مجرد أحداث ولّت بلا رجعة، بل هي أهم قطيعة شطرت الوعي الإسلامي إلى نصفين ولا تزال آثارها إلى اليوم باقية. فإذا عدنا إلى جذور هذا المنعرج التاريخي فهل يعقل أن نعود إليها بتهاون واستسهال؟
سؤال يُستحضر مجدداً مع استدعاء أحداث الفتنة الكبرى ضمن مسلسل "معاوية" الذي يعرض خلال رمضان هذا العام. ولن يخطئ متابعه في القول إن تأويل هذا الحدث المفصلي يأتي فاقداً للعمق الذي يُفترض أن تحفر فيه المادة الدرامية بعيداً. فإذا تركنا جانباً عثرات الفصاحة وعشرات الإسقاطات التي رصدتها خطابات النقد الرائجة مع اتساع دائرة منصات التواصل الاجتماعي، فإن ما يلفت في "معاوية" هو طغيان منطق الفُرجة من تنضيد ديكورات وملابس وتسريحات. وتبعاً لذلك ظهرت "الفتنة الكبرى"، على تعقّدها، مجموعة من المشاهد التبسيطية التي ترفد الثقافة العامة دون أن تجذّر فكرة متماسكة أو تبني مقولة تاريخية.
إذ لا يرمي مسلسل "معاوية" بجذوره في تربة المدونة العربية المعاصرة حول الفتنة الكبرى. ففي القرن الماضي، تحوّلت الكتابة عن هذه الأحداث الموجعة إلى ما يشبه الجنس التاريخي-الأدبي الذي يمكن تسميته بـ"أدب الفتنة الكبرى". ولنقتصر على الأعلام: فطه حسين قد ترك كتاباً بديعاً من ناحية الأسلوب والبناء حول هذا الموضوع في جزأين: "عثمان" (1947)، ثم "علي وبنوه" (1953)، لعل أبرز ما فيه إعادة ترتيب عناصر المشهد التاريخي للفتنة الكبرى وفق العقلانية المعاصرة، وقد أجاد في تركيب الشخصيات - وليس في بناء الأحداث فحسب - ومنها شخصيّة معاوية الذي أخرجه من دائرة الانحيازات المذهبية، تشويهاً أو تمجيداً ورسم صورَتَه رجلاً يصنع قدره عبر اختياراتٍ هي في النهاية توليفة من السياقات السياسية والاجتماعية لعصره حتى عبر بالإسلام من مرحلة التأسيس الديني التي استمرت من عصر النبوة والخلفاء الراشدين إلى مرحلة التأسيس السياسي التي جعلت من الإسلام إمبراطورية تمتدّ مشرقاً ومغرباً.
يفتقد للعمق الذي يُفترض أن تحفر فيه المادة الدرامية
وقبله خاض جرجي زيدان غمار الكتابة حول الفتنة الكبرى من رؤية مغايرة، فكانت الإطار الزماني لثلاث من رواياته، هي "عذراء قريش" (1899)، و"غادة كربلاء" (1905)، و"17 رمضان" (1906)، وفيها تتبيّن صنعة إعادة تركيب المادة التاريخية وتوظيفها ضمن التخييل الروائي بحيث يتحوّل الصخر إلى صلصال مع تقلّب الأحداث مع النفاذ إلى ما في النفوس من نوازع عميقة. وكان يفترض أن نجد من ذلك أثراً في مسلسلات اليوم، خاصة أن روايات زيدان لا تقع في مستوى شاهق من التحليل والبناء، بل هي مما يقرأه اليافعون فيفهمونه ويستسيغونه.
كما كان لأحداث الفتنة الكبرى نصيب في كتابات محمود عباس العقاد، كيف لا وقد سطر سيرَ عدد من أبطالها، مثل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ضمن سلسلة العبقريات؛ وأفرد لمعاوية أيضاً كتاباً خارج السلسلة، كما تناولها في سيرة عمرو بن العاص. ويحسب للعقاد أن ينوّع ضمن المقام نفسه، وهو يكتب عن الفتنة، فلها عنده أبواب متنوعة بين التاريخ والبواعث النفسية والنعرات القبلية.
وعلى جودتها، تظلُّ جميع هذه الكتابات مصبوغة بالطابع الأدبي والجدلي حتى جاء المؤرخ التونسي هشام جعيّط فوضع كتاب "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" (1989)، فكان نقلة نوعية لأنه أعاد بناء الحكاية بأدوات المعرفة العلمية ومقتضياتها متسلحاً بالمنهج التاريخي الوضعي ومحللاً كل الأبنية القبلية والرمزية التي حكمت هذا الصراع، بالاعتماد على المراجع الإسلامية القديمة بعدما أخضعها إلى حسّ المؤرّخ المحترف وانتقد رواياتها المتضاربة قارئاً لما بين سطورها. ثم توسل بغيرها من مصادر الأدب والسياسة الشرعية والأخلاق من أجل رسم صورة متكاملة عن تلك الحقبة المعقدة، تبعد عن الأسطرة ولا تقع في فخاخ التدليس.
طغيان منطق الفُرجة من تنضيد ديكورات وملابس وتسريحات
وإلى هذه الكتابات نضيف كتاباً شهيراً للمستشرق الألماني فيلهلم ڤيلهوزن بعنوان "الشيعة والخوارج" (1901)، ترجمه عبد الرحمن بدوي (1958)، عاد فيه إلى الجذور التاريخية للصراع بين هاتين الفرقتين ثم إلى الأحداث الأليمة التي اكتنفت نشأتهما وتطوراتهما. ولا ننسى أخيراً تحليلات المؤرخ العراقي علي الوردي عن أحداث الفتنة (1954)، والتي فكك من خلالها المحدّدات الاجتماعية لذلك الصراع الإسلامي الأوّل، مُظهراً العوامل التي ساهمت في تأجيج ما حصل من أحداث الجمل وصفّين والتحكيم وحروراء حتّى مقتل علي بن أبي طالب.
ولئن أوردنا بعض هذه العناوين، فمن أجل التأكيد على أن هذا الموضوع كان من التشابك بحيث يقتضي إلماماً، على الأقل، بما تركته هِمَم الباحثين والأدباء الذين خاضوا غماره وميّزوا طيه بين صحيح الروايات وسقيمها ثم أضافوا إليه العمق التحليلي الذي لا يكتفي بعرض الأحداث واسترجاع مشاهدها، وإنما ينجز المهمة التاريخية الحق: تفكيك ما صيغ عنها من خطابات تبريرية لمحاولة استكناه الوقائع، أسبابها ومسبباتها مع التنصيص على العوامل التي ترجّح حصول حدث أو قول ما من عدمه ضمن تلك "البلبلة" التي لا تزال آثارها واضحة إلى عصرنا.
ولذلك يتعلق السؤال الجوهري بما يُقدّم اليوم للمشاهد العربي من مادة تاريخية أهي أصيلة متينة ضاربة بعروقها في الأرض، أم مجرّد استعراضات خاوية على عروشها، حتى وإن فتنتنا الديكورات ببهرجها والملابس بأناقتها، فليس بذلك يُصنع التاريخ ويعاد إنتاجه في ضمائر الناس.
وعليه، فلا يقتصر فشل المسلسل في الأخطاء التاريخية العديدة التي نَبَّه إليها النقّاد، ولا في الضمنيات والإسقاطات، ولا في التفاوت الملحوظ بين عناصر العصر الإسلامي الأول وبين اختيار عناصر مثل سجلات الكلام وكلّها تنتمي إلى مراحل متقدّمة من العصر العباسي، مما يخلق مغالطات تاريخية صارخة. وإنما يكمن في السطحية التي تحكم رؤية المسلسل للتاريخ فتُخرج المعقّد المركّب في صورة البسيط الخفيف، ويكمن خطر ذلك في الدراما التلفزيونية بالذات، لأنها تصل أكثر من معظم الأشكال الثقافية الأخرى من كتاب وفنون مسرحية، وهي، أي الدراما التاريخية، توحي بأنها تقدّم تاريخاً غير أنها لا توصل غير أشباح مزركشة ترسّخ اعتقاداً لدى شريحة واسعة من المتفرجين بأنهم امتلكوا المادة التاريخية بعد مشاهدتها في مواقف وشخصيات، لكنهم لم يروا غير شجرة، بل وريقات مهلهلة، تخفي غابة كثيفة تتوسطها المنعرجات والتضاريس التي سبق للمؤرخين التحذير منها.
وإن أكثر ما يحزن في ما آلت إليه صناعة الدراما التاريخية العربية تلك الغفلة عن روافد غنية ينبغي أن تنهل منها اليوم، لم نذكر غير ما لمع منها في ما عرضناه – نظراً لكثافة المادة وتنوعها – أدب الفتنة الكبرى، لكن كل تلك الأعمال لا تُهضم في منتج جماهيري، فتظلّ أنهاراً تجري مياهها في صمت حتى تصبّ في البحر دون أن تغذّي الزرع والضرع.
* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس
