بينما تتسارع الأحداث في عالمنا، وتتشابك التحديات السياسية والاجتماعية، تبقى الأفلام الوثائقية نافذة نادرة تمنحنا رؤية أعمق للحقائق المحيطة بنا. في ماستركلاس بعنوان "لا عدالة من دون حقيقة: صناعة الأفلام الوثائقية كشاهد وراوي للحقيقة"، الذي نظمته الهيئة الملكية للأفلام الأسبوع الماضي في عمّان، اجتمع مخرجان في هذا المجال؛ مايك ليرنر ومارتن هيرينغ، لإلقاء الضوء على تجربتيهما في صناعة الأفلام الوثائقية. في هذه الجلسة، تبادل المخرجان وجهات نظريهما حول رواية الحقيقة، والتحديات التي تواجه صناعة الأفلام، وأهمية الحفاظ على نزاهة السرد في عالم مضطرب.
مايك ليرنر هو منتج أفلام وثائقية، يملك مسيرة مهنية تزيد عن ثلاثين عاماً، وقد رشح لعدة جوائز أوسكار وبافتا وإيمي. عُرف بإنتاج أفلام تسلط الضوء على قضايا جيوسياسية معقدة بأسلوب إبداعي وجذاب، فتعاون مع كبرى الشبكات العالمية، مثل "نتفليكس"، و"إتش بي أو"، و"بي بي سي". تشمل أعماله أفلاماً حائزة على جوائز مثل Afghan Star وThe Square وHell and Back Again. ويتمتع مارتن هيرينغ بخبرة تمتد لعشرين عاماً مخرجاً لأفلام وثائقية، فعمل مع شبكات كهيئة الإذاعة البريطانية، وقناة ديسكفري. في عام 2006، شارك مع ليرنر في تأسيس شركة Roast Beef Productions، التي قدمت أعمالاً وثائقية، مثل Afghan Star التي نالت إعجاباً عالمياً وترشيحات للأوسكار.
"إن الأفلام الوثائقية ليست مجرد قصص تُروى"، يقول مايك ليرنر في حديث إلى "العربي الجديد". رُشح المخرج لأوسكار مراراً، وأنتج أفلاماً لمنصات عالمية مثل "نتفليكس"، و"إتش بي أو". يضيف: "إنها أدوات يمكنها أن تكشف عن حقائق مظلمة، وتثير حوارات عالمية". مثال على ذلك فيلمه الشهير Afghan Star، الذي لا يقتصر على كونه عرضاً غنائياً، بل يسبر أغوار التغيرات الثقافية والسياسية في أفغانستان بعد سنوات من الحرب. يقول ليرنر: "هذا الفيلم لم يكن عن الموسيقى فقط، بل عن الحرية، عن الناس الذين يطالبون بحقهم في التعبير والاختيار".
الفيلم يتابع أربعة متسابقين شباب يتنافسون في برنامج مشابه لـAmerican Idol، إذ يغامرون على المسرح: "كانت هناك لحظات كنا نخشى فيها على سلامة المشاركين، لكنهم أظهروا شجاعة مذهلة"، يشرح مارتن هيرينغ، شريك ليرنر في الإخراج. هذا المزج بين القصة الشخصية والواقع السياسي خلق تجربة سينمائية غنية بالمشاعر والأفكار.
يرى ليرنر أن الأفلام الوثائقية تعمل كمنصات قوية لسرد الحقيقة، من خلال تقديم قصص واقعية تسلط الضوء على قضايا مهمة. لتحقيق ذلك مع مراعاة الحساسيات السياسية والأخلاقية، يشير إلى أنه يجب على المخرجين إجراء بحوث دقيقة، والتأكد من تمثيل جميع الأطراف المعنية، والالتزام بالمعايير الأخلاقية في السرد.
ينقلنا ليرنر في حديثه إلى عالم آخر مع فيلم Hell and Back Again، الذي يسرد قصة جندي أميركي يعود من الحرب في أفغانستان إلى وطنه محملاً بآثار جسدية ونفسية مدمِّرة: "الفيلم عن تلك المسافة اللامرئية بين الحرب والحياة الطبيعية".
يتحدث العمل عن الجندي ناثان هاريس، الذي يواجه صدمة العودة من الحرب بينما يكافح للتأقلم مع حياته الجديدة. بين مشاهد القتال في أفغانستان ولحظات الألم الشخصي في منزله، يعكس الفيلم مزيجاً من الشجاعة والهشاشة: "كانت التحديات في هذا الفيلم مضاعفة: أن تكون عادلاً مع تجربة الحرب، وأن تصنع فيلماً يمس القلوب من دون استغلال آلام الشخصيات"، يضيف ليرنر.
أفلام ليرنر التي أنتجها، مثل Punk Prayer وThe Square، وضعته في تحدٍّ أمني. يصف ذلك بأنه "غالباً ما يضع المشاركون في هذه الأفلام أنفسهم في مواقف غير آمنة باختيارهم، مثل المشاركة في الثورات أو الاحتجاجات. نحن نولي سلامتهم الأولوية قدر الإمكان، لكننا لا نتدخل في قراراتهم. إذا شعرنا بأنهم يخططون لشيء خطير، نحاول إقناعهم بالتراجع عنه".
رحلته في إنتاج وثائقيات، مثل السلسلة عن كيفن سبيسي، SPACEY UNMASKED، التي وضعت العديد من الاعتبارات الأخلاقية لتوثيق قضايا قانونية، واعتمد فيها على محامين ذوي خبرة وتوجيهات المذيعين، مثل Channel 4. هم يضمنون أن كل ما يقدمه يتماشى مع القوانين والمعايير الأخلاقية، مشيراً إلى أن طريقته في سرد القصص حسب الموضوع أو المادة المطروحة تأتي بحسب الموقف.
ينتقل الحوار إلى فيلمهما المشترك The Accidental President. يضيء المخرجان على قصة ملهمة تعكس كفاح الديمقراطية في بيلاروسيا. الفيلم يتناول رحلة سفيتلانا تيخانوفسكايا، المعلمة التي تحولت إلى زعيمة معارضة بعد اعتقال زوجها.
"سفيتلانا لم تكن تبحث عن السلطة، كانت تبحث عن العدالة"، يقول هيرينغ. يسلط العمل الضوء على الشجاعة البشرية في مواجهة الاستبداد، ويعرض ما يعنيه أن تصبح رمزاً للديمقراطية في بلد مليء بالصراعات السياسية: "أردنا أن نوصل تعقيد القصة من دون أن نفرض رأينا على الجمهور"، يشرح ليرنر.
يوضح هيرينع أن الفيلم يتابع الرحلة السياسية غير المتوقعة لسفيتلانا تيخانوفسكايا في بيلاروسيا، إذ تطلب بناء علاقة خاصة معها، ليضمن سرد قصتها بأصالة وسط الاضطرابات السياسية، "وذلك من خلال الحضور معها وجعلها تشعر بالأمان معنا، كأشخاص أولاً، وكصناع أفلام ثانياً. بمجرد أن وثقت بنا، انفتحت تماماً وشاركت ما أرادت أن تخبره".
تصوير هذا الفيلم لم يكن سهلاً، خاصة مع التوترات السياسية في بيلاروسيا. يشير هيرينغ إلى أن "الحفاظ على سلامة فريق العمل والمشاركين كان أولوية، لكننا كنا ندرك أيضاً أهمية نقل الحقيقة كما هي". يضيف: "العمل في مناطق الحروب غير متوقع. تتطور الأحداث بسرعة، ويصعب تحليلها حتى نعود إلى غرفة المونتاج. نعتمد على معلومات جيدة ومستشارين محليين لضمان السلامة، لكننا نتكيف مع الظروف فور وقوعها".
من روسيا إلى بيلاروسيا، تستمر الأفلام الوثائقية في إثارة التساؤلات حول دور الفن في التغيير الاجتماعي والسياسي. فيلم Pussy Riot: A Punk Prayer، يروي قصة الفرقة النسوية الروسية التي واجهت النظام السياسي بقيادة فلاديمير بوتين من خلال الموسيقى.
"ما أدهشني هو كيف يمكن لأغنية بسيطة أن تتحول إلى رمز للتمرد"، يوضح ليرنر. الفيلم يتناول قصة الفرقة التي أدت عروضاً موسيقية جريئة في الأماكن العامة كجزء من احتجاجاتها ضد القمع السياسي: "هذا الفيلم يظهر كيف يمكن للفن أن يصبح سلاحاً في وجه الاستبداد، وكيف يمكن للأفلام الوثائقية أن تكون منصة لتوثيق هذه اللحظات الثورية"، يوضح هيرينغ.
أحد أهم محاور النقاش كان حول الصعوبات التي يواجهها صناع الأفلام الوثائقية في البيئات الخطرة: "أكبر تحدٍّ هو الوصول إلى الحقيقة في مكان يعاني من الرقابة أو الفوضى"، يقول هيرينغ.
يشرح المخرجان والمنتجان، ليرنر وهيرينغ، كيف اعتمدا على مصادر متعددة، بما في ذلك الشهادات الشخصية والمواد الأرشيفية، لضمان تقديم صورة دقيقة ومتوازنة. يقولان: "الثقة هي المفتاح، يجب أن يشعر الأشخاص الذين نروي قصصهم بأننا نحترم تجربتهم ونرويها بأمانة". وما يتفق عليه الاثنان، في ما يتعلق في اختيار المواضيع والقصص التي تنتجها شركتهما Roast Beef Productions التي أسساها عام 2006، هو أن "القصص غالباً ما تختارنا. نحن لا نتبع أجندات، بل نستجيب للأحداث ونتبع ما يثير اهتمامنا".
وعن آلية عملهما ونهجهما، خاصة في ما يتعلق بمكافحة المعلومات المضللة، ودور صناع الأفلام الوثائقية في المساهمة في استعادة الثقة في السرد القائم على الحقائق، يرتكز كلاهما على القصص الإنسانية، بدلاً من الحساسيات السياسية، مؤكدين أن "هدفنا هو الحفاظ على الأصالة، من خلال البقاء قريبين قدر الإمكان من الشخصية وتجربتها؛ فالأفلام الوثائقية يمكن أن تكون أدوات لسرد الحقيقة، مع مراعاة الحساسيات السياسية، والاعتبارات الأخلاقية". يضيفان: "هدفنا هو سرد القصص الإنسانية. الأصالة تأتي من التركيز على الشخصية وتجاربها بدلاً من الأجندات السياسية".
