من وحي الزكاة والأوقاف في رمضان

منذ ٦ ساعات ١٤

في الوقت الذي يتعرض العالم الإسلامي فيه للتمييز والفقر والبطالة، فإن هنالك مؤشرات على أن بعض دوله تتمتع حالياً بمعدلات نمو واضحة، لكن الإحصاءات الشاملة لا تزال توحي بوجود مشكلات هيكلية لا بد من التصدي لها بكل قوة. وتقول آخر الإحصاءات المتاحة عن الهجرة واللجوء إن هناك 80 مليون مسلم لاجئ في العالم يشكلون 29% من مجموع اللاجئين المسجلين دولياً، علماً أنّ عدد المسلمين يشكل 25% من مجموع سكان العالم.

أما بالنسبة لإحصاءات الفقر المدقع، فإنّ عدد المسلمين الذين يعانون منه يزيد على 350 مليون شخص. يعيش فيه هؤلاء على دولار وربع دولار في اليوم. ويقدر عدد المسلمين الذين يعانون الفاقة القاهرة 40% من مجموع السكان في العالم.

أما بالنسبة للبطالة، فإنها تعتبر أيضاً الأعلى بين المسلمين في العالم، وتتفاوت الأرقام بين بلد وآخر، ومن عام مضى إلى عام جديد، ولكنها لن تقل عن 25% إلى 30% من مجموع القوى العاملة والقادرة على العمل والراغبة فيه.

ومع كل هذه العتمة الاقتصادية والصورة المظلمة التي ترسمها هذه المعلومات إلا أن كثيراً من الدول الإسلامية والبالغ عددها 57 دولة هم أعضاء في منظمة الدول الإسلامية، و56 دولة منها أعضاء في الأمم المتحدة، وتظهر علاقات متميزة في الأداء، مثل السعودية وقطر والإمارات وإندونيسيا وماليزيا وتركيا وإثيوبيا (أكثر من 40 مليون مسلم)، لكن هنالك دول تعاني من عراقيل وتراجع في الحفاظ على البيئة، ومن تآكل التربة وانهيارها، وقلة الأمطار، بخاصة في منطقة الساحل الغربي الأفريقي.

لو أردنا أن ننظر إلى مشاكل العالم وتأثيراتها على مستوى حياة سكان الكرة الأرضية. وأردنا أن نأخذ الموضوع على مدى بعده الإنساني، فإن دواعي الإنسانية تتطلب منا أن نقف نحن البشر كتلة واحدة من أجل التصدي لتحديات الفقر والجوع والبطالة والإعاقات الجسدية والعاطفية والعقلية، دون الالتفات إلى الدين أو المذهب أو الإثنية. لكن العالم كما يرى كثير من المسلمين ليس عادلاً ولا إيجابياً، بل هو عالم متحيز، يضع المسلمين ضمن صناديق فارغة، ويكتب عليها "إسلاموفوبيا"، أو "إرهاب" أو "تعصب"، وغيرها. ولذلك فإن موقف كثير من المسلمين حيال زملائهم في العيش على هذا الكوكب هو الموقف المرتاب الذي يشكك في النوايا.

ولو قام المسلمون في العالم بإجراء دراسات عما يتعرض له المسلمون من أذى واتهامات وطرد وقسوة وتمييز وتهجير، فإن الأدلة المتاحة من كره الإسلام وأهله لا ينقصها الدليل الساطع المتكرر يوماً بعد يوم. ولو نظرنا إلى آسيا لرأينا أمثلة صارخة في دول تجمعنا بها علاقات تجارية ومصلحية ضخمة مثل الصين، والهند، وغيرها من الدول، وحتى في دول أمثال ميانمار، والفيليبين، وبعض الأماكن في تايلاند وسريلانكا، وغيرها.

ونرى الإشكالات نفسها تطل برأسها القبيح على المسلمين في إثيوبيا، وبعض دول غرب أفريقيا. أما في شرقها، فإنني لا بد أن أعترف بعدما زرت أوغندا وكينيا أن التسامح هو الذي يسود تلك العلاقة. ومن ناحية أخرى، فإن جوزيف نيريري، زعيم تنزانيا، الذي ارتكب المذابح بحق المسلمين في تنجانيقا، استطاع أن يفند موقفه عن طريق التظاهر بالصداقة مع بعض الزعماء العرب مثل الراحل جمال عبد الناصر. حيث كان عبد الناصر ونيريري من المؤسسين لحركة عدم الانحياز، علماً أنّ الانحياز كان يمارس ضد المسلمين من سكان تنزانيا.

وقس على ذلك في أوروبا، وما لقيه المسلمون في البوسنة والهرسك وكوسوفو على يد بعض المغالين من المتطرفين في صربيا وكرواتيا، والتي حوكم زعيمان من زعمائها بجرائم حرب في محاكم الجرائم الدولية، وصدرت بحقهما أحكام جزائية لا لبس فيها ولا غموض. وقس على ذلك ما فعله الاستعمار الأوروبي ضد المسلمين في كل أقطار الإسلام.

لكنّ كلّ هذا الظلم الذي مورس ضد المسلمين ليس إلا لكونهم كذلك، واتخذ من كل حرب وقعت عذراً لقتل المسلمين وتشريدهم والتنكيل بهم سواء حرب الاستقلال، أم حرب الإثنيات، أم حرب ضد الاستعمار، أم غيرها، إلا وانتهى المسلمون في نهايتها، وقد تعرضوا للذبح والقتل والتشريد.

وما نراه يحصل بعد حرب غزة من ردات فعل لرؤساء أوروبا والولايات المتحدة، فإنهم يقولون جملة أو اثنتين، فيهما نوع من إظهار التعاطف أو التفهم، ولكن ما يلبث ذلك أن يتحول ما بين غمضة عين وارتداداتها إلى موقف معاد تستخدم فيه الأسلحة الثقيلة والطيران والقاذفات والطائرات المسيرة إلى عُدَد متاحة لضرب مكان كاليمن أو صنعاء، وكأن لهؤلاء الحق كل الحق في قتل العشرات وجرح المئات، دفاعاً عن حرية الملاحة. ولكن بالمقابل لهم الحق في الاستيلاء على قناة بنما من أصحابها، لأن بنما منحت الصين حق إدارة تلك القناة، أو يريدون احتلال غرينلاند، لأنها مليئة بالمعادن النادرة والضرورية لصناعة الأثرياء.

ومهما اشتكينا من النظام الإنساني، والنظام القانوني، والنظام الأخلاقي، وغيرها من الأنظمة الضابطة لسلوك العالم تجاه بعضه البعض فلا بد أن نثير السؤال التالي: هل نحن أمام تغيير منهجي في إدارة العالم؟ أو ما يسمى Paradigm Shift؟ وهل بات النظام الحالي على قِدَمه وكثرة الرقع في إزاره يحمل في طياته اتهامات لا يمكن إنكارها لدول الاستعمار الحديث؟ وهل عدنا إلى نظام "Avitars" الذي يأتي فيه أقوام بوجوه تضمر في باطنها الشر الأكبر لأصحاب الأرض الغنية بالموارد؟

رغم كل ما يتهم به العرب والمسلمون من غنى في الموارد الطبيعية، فإن العالم الإسلامي الذي يشكل ربع سكان الأرض لا يقدم سوى أكثر بقليل من 18% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ولذلك فإن المسلمين مرشحون لمزيد من الظلم والاتهام بأنهم مسؤولون عن الفقر، بدلاً من أن يكونوا من ضحاياه، وأنهم سبب تدني الأوضاع المعيشية التي سعت أهداف القرن الـ 21 التي أقرتها الهيئة العامة للأمم المتحدة في مطلع القرن الحالي من أجل إنقاذ البشرية من شواردها وهمومها.

لا شك أن تفاوتاً كبيراً في الدخل هو السمة الغالبة على توزيع الدخل والأرزاق بين المسلمين. ومع أن ما يحصل عليه المسلمون هو أقل من نصيبهم العادل، إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في تكدس الجزء الأكبر من الثروة النقدية في عدد من الدول الصغيرة نسبياً من حيث عدد السكان، ما يجعل هذه الدول تبدو في أعين كثير من سكان العالم دول رفاه وعز وثروة. وهذا ليس بالأمر الصحيح بالضرورة. وتؤكد كل الشواهد أن الضغوط الموضوعة على الدول النفطية الصغيرة أو الدول ذات الموارد الكبيرة هي مبالغ باهظة. وتقوم هذه الدول بالدفع أكثر من نصيبها العادل في محاولة لإنقاذ العالم من المشاكل التي يعاني منها.

وقد سبق وأن أثرت في هذا المقال سابقاً قضيتين مهمتين. وكلتاهما جاءت من الأمير الحسن بن طلال الذي نادى بخلق صندوق عالمي للزكاة. ولو وضعت فيه سنوياً 10% من مجموع الزكاة المستحقة على ثروات المسلمين، فإنها لن تقل في قيمتها النهائية عن 18 إلى 20 تريليون دولار. ولو افترضنا أن الزكاة المستحقة عليها ستكون في حدود 25 حصة لكل ألف، فإن 10% منها ستساوي 2.5 حصة من كل ألف، أو ما يقارب حوالي 40 إلى 45 مليار دولار. وهو رقم متميز يمكن الاستعانة به واستخدامه استخداماً حكيماً لحل مشاكل الفقر وتدني الإنتاج والبطالة والأمراض ومرافق التعليم الأساسية. وقد طالب الأمير عدة مرات في إطار منظمة الدول الإسلامية وغيرها خلق هذه الوسيلة، ووضع أسس واضحة للإنفاق منها وشروط التقيد بها. ولكن الأمر لا يزال يراوح مكانه. أما باقي المبالغ المستحقة للزكاة فيمكن إنفاقها على مشروعات محلية داخل الدول نفسها.

أما الغرض الثاني الذي يمكن إنشاؤه ضمن إطار منظمة الدول الإسلامية فهو إنشاء أوقاف خاصة لمشروعات كبرى مهمة، في إطار الصحة، أو التعليم، أو الثقافة التكنولوجية الحديثة، أو جامعة المتفوقين من دول العالم الإسلامي، كي يقوم المسلمون والعرب معهم باختراع أفكار عامة ومفيدة للإنسانية. ويمكن تخصيص منافع الأوقاف لمجموعة سكانية في منطقة ما، بحيث يستفيد منها المسلمون وغير المسلمين.

آن الأوان لأن ندافع عن ديننا الذي يجعل جزءاً أساسياً من حضارتنا وثقافتنا وهويتنا الجامعة أن يترجم نفسه إلى أفعال مفيدة يلمسها الناس الآخرون لمساً حسياً مباشراً، ويصب في تطوير حياتهم نحو الأفضل. لقد كانت مؤسستا الزكاة والأوقاف خير أدلة في يوم من الأيام على حسن إدارتنا الموارد، ونظرتنا الشمولية إلى تداخل المصالح بين الناس. وبسبب تلك النظرة العملية الواقعية استطعنا أن نكسب احترام العالم ووده.

كل آثارنا العظيمة من المسجد الأقصى إلى قبة الصخرة المشرفة، إلى الحرم الخليلي، إلى مسجد هاشم في غزة، إلى الجامعات في المغرب وتونس ودمشق وبخارى، إلى الأزهر الشريف وإلى أماكن لا تعد ولا تحصى من آبار سقي للمسافرين، إلى أماكن استراحة للحجاج والمعتمرين، إلى مساجد قديمة يملأ صوتها أسماع أهل إسطنبول إلى أرض روم إلى بلاد الشام والعراق ومصر والديار العامرة في شبه الجزيرة العربية حتى أعالي الجبال في الهند وباكستان والصين وغيرها… هذه الثروة تبقى ولا تموت.

قراءة المقال بالكامل