بعد الارتفاعات الهائلة في أسعار العقارات خلال العامين الأخيرين، وخروجها عن قدرة الغالبية العُظمى من المصريين، خصوصاً مع التدهور الشديد في قدراتهم الشرائية بعد الجرعات المتوالية المتسارعة من خفض سعر الصرف خلال فترة زمنية قصيرة، وما لحقها وتخلّلها من موجات تضخّمية كبيرة، لحقت إيجارات العقارات منطقياً بالركب، وخرجت عن قدرة تلك الغالبية كذلك، خالقةً مشكلة كبيرة جديدة تتعلّق بأول وأبسط شروط الحياة الكريمة، وهو توافر السكن المناسب، الذي يمثّل أول متطلبات "الستر"، الذي يذكر المصريون الاكتفاء به دوماً كتعبير عن القناعة والترفّع عن سَقْطِ بالدنيا.
ورغم الرابط المنطقي بين سعر الأصل وإيجاره؛ بما يجعل الأخير دالة في الأول، أي تابع له ومتأثّر به أوتوماتيكياً، يظل في الأمر كثير من التفصيل، خصوصاً مع ما يُروَّج من دعاية فاشية عنصرية ضد الإخوة العرب اللاجئين بمصر مُؤخراً، وخاصة السودانيين والسوريين، والذي يصل في بعض خطوطه السفيهة لتحميلهم حصة معتبرة من مشكلة التضخم المُتسارع والمنتشر بكافة القطاعات في مصر مُؤخراً.
وقد حقّقت الإيجارات العقارية في مصر ارتفاعاً انفجارياً خلال العامين الأخيرين، فتشير التقديرات إلى ارتفاعها بما يتراوح ما بين 200 و300% في المتوسط، وحتى أكثر من ذلك في بعض المناطق الأكثر تميّزاً أو تكدّساً، فعلى سبيل المثال، تذكر النائبة البرلمانية آمال عبد الحميد ارتفاع الإيجارات بنسب 120% في مناطق مثل السادس من أكتوبر وفيصل والهرم، وبنسب 300% في مناطق كالدقي والقاهرة الجديدة ومدينة نصر.
فهل تسبّب اللاجئون حقاً بهذه الزيادات الكبيرة في ذلك الوقت القصير نسبياً، رغم كونهم أنفسهم ضحايا لها، كما تخبرنا واقعة أحد الوافدين السودانيين الذي طالبته مالكة الشقة التي استأجرها برفع الإيجار بنسبة 200%، من ستة آلاف جنيه إلى 18 ألف جنيه، دفعةً واحدة بعد أقل من ستة أشهر من التعاقد.
هل يمكن أن يكون اللاجئون السبب؟
حسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تستضيف مصر حوالي 792 ألف لاجئ حتى أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، أكثر من نصفهم من السودانيين وربعهم من السوريين ويتوزّع الخُمس الباقي بين الجنسيات الأخرى، يقيم معظمهم في القاهرة والجيزة بنسب 55 و41% على التوالي، هؤلاء هم من ينطبق عليهم وصف اللاجئ بمعناه القانوني، لكن ما يعنينا هنا كتأثير اقتصادي هو الوافدون الجُدد عموماً آخر عامين؛ فما يؤثر في الزيادة الجديدة بالإيجارات ليس العدد الكلي للأجانب المقيمين، بل منطقياً ما جدّ على أعدادهم من زيادة خلال الفترة المعنية، والتي ستكون بلا شك أقل من العدد الإجمالي المذكور، سواءً عدد اللاجئين بالمعنى القانوني الضيّق، أو الأجانب بالمعنى الواسع الذين يبلغ وجودهم المُتراكم عبر السنوات والعقود الماضية تسعة ملايين تقريباً حسب منظمة الهجرة الدولية.
وحسب تقرير الهجرة العالمي لعام 2024، تحتل مصر المرتبة الأولى أفريقياً والعشرين عالمياً ضمن أعلى دول العالم هجرة إلى الخارج، أي تصديراً للبشر إلى بلاد أخرى، فهي ليست ضمن أبرز بلاد المهجر أو استقبال المهاجرين، بل مستفيد صافٍ من حركة الهجرة العالمية، وصافي هجرتها بالسالب (أي الخارج منها أكثر من الداخل إليها) في معظم السنوات منذ الستينيات، وسالب بشكل مستمر تقريباً منذ عام 2014، وهو الميل الذي انعكس في احتلالها مرتبةً متقدمة ضمن أكثر بلاد العالم استقبالاً للتحويلات المالية.
مع ذلك، فقد تضاعفت أعداد طالبي اللجوء إلى مصر خلال العامين الأخيرين؛ على خلفية الحرب الأهلية في السودان الشقيق، فقد دخل مصر أكثر من نصف مليون شخص ما بين إبريل/نيسان 2023 وإبريل 2024 هرباً من الأزمة حسب مكتب مفوضية الأمم المتحدة للاجئين بالقاهرة، بالإضافة إلى 475 ألف طلب لجوء أخرى أعطت المفوضية الأولوية لـ 48% منها، وقد جرى توزيع من وصلوا فعلاً على المحافظات المختلفة بشكل أكثر توازناً من التوزيع العشوائي سالف الذكر، وإن غلب إسكانهم بمناطق الجيزة (266 ألفاً) والقاهرة (178 ألفاً) والإسكندرية (46 ألفاً)، ثم تأتي لاحقاً الشرقية (17 ألفاً) ودمياط (10 آلاف)، وبضعة آلاف أو مئات في بقية المحافظات.
وهكذا فمُجمل ما استقبلته مصر خلال العامين الأخيرين سيكون في حدود المليون لاجئ، بفرض عدم دقة البيانات الرسمية وبتساهل كبير لصالح افتراض تجاوزهم الأرقام المُسجّلة؛ ما يجعلهم يمثلون في أقصى التقديرات ما بين مئتي ألف وربع مليون أسرة، تمثل حوالي رُبع عدد عقود الزواج الجديدة بمصر عام 2023، التي يُفترض أن أغلبها يستصحب طلباً جديداً على العقارات، شراءً أو استئجاراً؛ فلماذا لم يرفع 960 ألف عقد زواج أو أسرة جديدة عام 2023، وقبله 929 ألف عقد عام 2022، أسعار وإيجارات العقارات بنسب لافته للانتباه، بينما يرفعها قدوم ربع مليون أسرة من اللاجئين ما بين 200 و300% في بحر عام واحد؟!
من جهة أخرى، وعلى سبيل التمرين الذهني، فبفرض نظري الارتفاع الشديد لمرونة الطلب السعرية للعقارات في مصر، بمعنى الحساسية النسبية الكبيرة للأسعار، بيعاً أو استئجاراً، لأي زيادة نسبية في الطلب على العقار، ونعني خصوصاً ذلك الطلب الزائد المُستجد على السوق المحلي من اللاجئين الأجانب، ولنقل إنها تساوي 5 مثلاً، وهو مستوى مرونة استثنائي فائق الارتفاع شديد الندرة (يفترض محدودية عرض شديدة خلافاً لواقع الحال بوجود ملايين الشقق الفارغة)، يعني أن زيادة 1% فقط في الطلب تؤدي إلى زيادة 5% في السعر؛ فإن زيادة ربع مليون أسرة المذكورة من اللاجئين، التي تمثّل ربع الزيادة الطبيعية في الطلب العقاري الناتج عن عقود الزواج الجديدة، والتي سنفترض مسؤوليتها الكاملة عن الزيادة السنوية المُعتادة بأسعار العقارات (باستبعاد كلي للمساهمة المعتبرة لعنصري الاكتناز والمضاربة في تضخّم الأسعار بسوق العقار المصري)، والمُقدرة حسب الخبراء في مصر بمتوسط 15% سنوياً، والتي لم تتجاوز متوسط 11% (بنطاق ما بين 7 و22%) عام 2022؛ فإنه بناءً على كل هذه الافتراضات المتساهلة لصالح ضخامة أثر اللاجئين (بافتراض ارتفاع أعدادهم الكلية وتأثيرهم النسبي مع مرونة طلب استثنائية وتنّحية عوامل الاكتناز والمضاربة)، فإن الزيادة النسبية في الأسعار الناتجة حصراً عن طلب اللاجئين الجُدد على العقار المصري خلال العامين الأخيرين لن تتجاوز في أقصى الأحوال نسبة 125% زيادة بالمعدل السنوي الطبيعي لارتفاع الأسعار، أو 19 نقطة مئوية إضافية لذلك المعدل؛ بما يعني ارتفاع المتوسط العام لأسعار القطاع بنسبة 34% بدلاً من 15% فقط في السنة.
وبالطبع، فهذه كلها مجرد أرقام تقديرية، على أساس أسوأ السيناريوهات، نجريها كتمرين ذهني بهدف تقريب الفكرة، وليس الحساب الحقيقي بأيّ حال؛ فقط لتوضيح لامنطقية دعوى مسؤولية اللاجئين الجُدد بالعامين الأخيرين عن الطفرة الهائلة في أسعار وإيجارات العقارات، فهم في أقصى الأحوال مجرد مساهم هامشي قليل الأهمية بالنظر لحجم الطفرات الهائلة في الأسعار والإيجارات، ما يتضح أكثر بالانتقال إلى الأسباب الحقيقية الواضحة كالشمس، والتي تظهر حقيقة كونهم مجرد ضحايا آخرين لما يعانيه المصريون أنفسهم، ولا تتجاوز جنايتهم استغلالهم كهدف سهل الانتقاد ونقل المسؤولية إليهم عما هم أنفسهم ضحية له!
لكن ما هي الأسباب الحقيقية؟
ينقلنا هذا للأسباب والجُناة الحقيقيين في هذا الارتفاع الكبير في إيجارات العقارات، والتي يبدأ أولها بارتفاع أسعار العقارات نفسها ضمن موجات التضخم العنيفة التي اجتاحت الاقتصاد المصري مع جرعات التعويم الحادة التي انخفضت بالجنيه بنسبة 68% تقريباً خلال عامين فقط، والتي تعكس ارتفاع الدولار مقابل الجنيه بنسبة 215% تقريباً خلال نفس الفترة، وهي الزيادة التي انعكست أضعافاً في أسعار أغلب السلع بما فيها العقارات (التي تُعامل في مصر معاملة الملاذ الآمن بما يزيد الطين بلة)، فضلاً عن ارتفاع تكاليف مكوّناتها الإنتاجية من حديد وإسمنت وغيره كذلك؛ خصوصاً مع الروافد الأخرى للتضخّم، المُزمن أساساً، بالاقتصاد المصري، وعلى رأسها سياسات التمويل بالعجز ومرض "فُرط الطباعة" الذي يعانيه البنك المركزي المصري، شفاه الله، بشكل مُتزايد.
ومنطقياً يؤدي ارتفاع أسعار العقارات إلى ارتفاع إيجاراتها من جهتين، الأولى كعلاقة دالية طردية بين المتغيّرين؛ باعتبار الإيجار تعبيراً عن الجزء الإيرادي من عائد الاستثمار على رأس المال العقاري، والثانية هي التحوّل في هيكل الطلب بسوق العقار، بزيادة الطلب على الإيجار على حساب الطلب على التملّك؛ مع تراجع آمال أغلبية السكان من محدودي الدخل في إمكانية التملّك مع ارتفاعات الأسعار الكبيرة والسريعة.
من جهة أخرى، يلعب "أثر المثل" دوراً في تعميم الأسعار عبر كافة أرجاء السوق، بنقل مستوياتها العامة من الأجزاء البارزة المؤثرة فيه إلى أغلب أجزائه الأخرى، خصوصاً مع الميل الاحتكاري المهيمن على أغلب الأسواق المصرية بما فيها العقاري منها، ومع ميل الملاك والمُضاربين والسماسرة لاستغلال الظرف الخاص ببعض المناطق التي تكدّس بها اللاجئون، والتي يمكن أن تكون قد شهدت زيادات استثنائية خاصة بسببهم بالفعل، لتعميم ذات الأسعار إلى المناطق، وحتى المدن والمحافظات، الأخرى التي لم يحدث بها مثل ذلك التكدّس، وربما لم يقربها أيّ لاجئ على الإطلاق، لرفع أسعارهم بالتبعية، ولو بنسب أقل من تلك المناطق.
وفي ذات السياق، يسهم رفع المطوّرين العقاريين المستمر لأسعار مشاريعهم؛ تعظيماً لأرباحهم وتأجيلاً لانفجار الفقاعة المُحتملة حال تباطؤ نمو الأسعار (والذي يهدد بانهيار القسم المضاربي المهم من الطلب العقاري)، مُستغلين ما لهم من سلطة وتأثير احتكاري ومحاكاتي على أغلب السوق، ومع الدعم الحكومي الصريح والمُستتر لهم، بل وتورّط الحكومة نفسها بتلك الممارسات المُناقضة لطبيعتها المُفترضَة كحكومة لا تاجر، نقول يُسهم كل ذلك في ارتفاع كافة الأسعار والإيجارات على مستوى كامل القطاع بالبلد، بما في ذلك القطاع التقليدي والأهلي الذي كان يعمل بمنطق وأسعار مختلفة عن قطاع الشركات الكبرى أو المطوّرين المحترفين.
وينقلنا هذا إلى سوء التنظيم الحكومي للسوق، بمحدودية تنفيذ الضريبة العقارية كأداة للتأثير في العرض العقاري، وبغياب أي ضوابط على نسب ووتائر زيادات الإيجارات سوى أهواء الملاك وجشع السماسرة، بدلاً من وضع معايير موضوعية تضمن العدالة بين طرفي العلاقة الإيجارية؛ بربط معدلات زيادة الإيجارات بمتوسطات معدلات التضخّم السنوية؛ بما يضمن استقرار مستويات المعروض من وحدات للإيجار مع عدم الإخلال بحقوق المُستأجرين في حد أدنى من الاستقرار التعاقدي والتماشي مع نمو قدراتهم الداخلية، ولو بقدر.
ويدخل في هذا كذلك ضعف التنظيم الحكومي لأماكن سكن اللاجئين، رغم أن أغلب المدن الجديدة بمصر شبه خاوية، وأن بها حوالي 13 مليون شقة فارغة دون استخدام، يقع ثلثها على الأقل بالقاهرة والجيزة والإسكندرية، ولو استُخدم نصفها فقط لاستوعب أضعاف عدد اللاجئين الحالي دون أيّ تأثير على أسعار وإيجارات العقارات.
وينقلنا هذا الغياب للتنظيم الحكومي -السهل نسبياً- إلى الفرضية الحزينة الدائمة باحتمالية تواطؤ الحكومة مع مصالح القطاع العقاري بالاستمرار برفع أسعاره ونفخ سوقه باستغلال حجة اللاجئين؛ مع تحوّلها هي نفسها لأكبر مستثمر عقار وبائع أراضٍ بالبلد، وتداخلها مع لوبي عقاري نافذ تتصدّر وجوهه النخبة الاقتصادية المدعومة رسمياً، بل وكبيرها نفسه الذي حقّق طفرات مليارية في ظل الحكم الحالي، حاصل على عفو صحي من عقوبة بحكم قانوني نهائي على خلفية جريمة قتل شهيرة.
