عن "وثائقي" ينزع مشروعيّة الضحية

منذ ٣ أيام ٢٢

قرّرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) سحب الوثائقي "غزّة... كيف تنجو في منطقة حروب؟"، الذي ساهم مساهمة أساسية في تحدّي السردية الإسرائيلية عن عدم تعريض حياة المدنيين في حرب الإبادة المتواصلة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023). برّرت الشبكة العمومية قرارها بالرغبة في تقصّي الفيلم وظروف إنتاجه لأن الطفل الراوي وبطل الوثائقي البالغ 13 عاماً هو نجل وزير الزراعة السابق في حكومة حركة حماس، ما اعتبرته القناة مسؤولاً في "حماس" من دون تمييز بين المدني والعسكري، وبين الطفل وربّ الأسرة. وقد أعلنت الهيئة أنها لم تُبلّغ مسبقاً بالخلفية العائلية للطفل من شركة إنتاج الفيلم، إلا أنها أقرّت، في الوقت نفسه، بأن الفيلم "يعرض قصصاً مهمّة نعتقد أنه يجب سردها، تلك التي تتعلّق بتجارب الأطفال في غزّة".

أثارت قوة الوثائقي ردّات فعل غير مسبوقة، بما في ذلك تدخّل وزيرة الثقافة ليزا ناندي، التي قالت إنها ستناقش مع المدير العام ورئيس مجلس إدارة هيئة الإذاعة البريطانية "خاصّة في ما يتعلّق بالطريقة التي اختير بها الأشخاص الذين ظهروا في البرنامج". تدخّل غير مسبوق من الحكومة في محتوى البثّ الذي يُفترَض أنه مستقلّ تماماً عن إرادة السلطة التنفيذية. المزيد من التراجع في موقف "بي بي سي" جاء بلسان المدير العام للهيئة تيم ديفي، إذ قال أمام البرلمان إنه قرّر سحب الوثائقي لأنه "فقد الثقة" فيه. كما أصدرت الهيئة اعتذاراً عمّا وصفته بـ"عيوب خطيرة" في إعداد الفيلم.

أثار قرار سحب الفيلم ردّات فعل ناقدة قوية، بما في ذلك رسالة وقّعها أكثر من ألف محترف في مجال الشاشة التلفزيونية والسينما، إلى جانب صحافيين في بريطانيا، وُجّهت إلى إدارة الهيئة، وصفت قرار سحب الفيلم الوثائقي بـ"رقابة ذات دوافع سياسية". واعتبر الموقّعون الفيلم "إنتاجاً صحافياً أساسياً يقدّم رؤية نادرة للغاية للتجارب المعاشة للأطفال الفلسطينيين في ظلّ ظروف لا يمكن تصوّرها، ويتيح تقوية الأصوات التي غالباً ما يتم إسكاتها". كما قدم المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين شكوىً رسميةً ضدّ قرار الهيئة سحب الوثائقي من منصّة iPlayer الخاصة بها، التي تُستخدم لمشاهدة المواد بعد مضي فترة عرضها. واعتبرت الشكوى أن إلغاء شهادة بهذه الأهمية من داخل غزّة يعكس تقاعساً من الهيئة البريطانية العمومية لجهة الحفاظ على الحياد، عبر الموازنة في أهمية مختلف وجهات النظر، كما أن تجاهل شهادة الراوي الطفل استناداً إلى معايير الأسرة أو الجماعة التي ينتمي إليها ينتهك الالتزامات القانونية للهيئة، التي تقتضي معاملة المساهمين بشكل عادل.

أمثلة يومية عن نزع إنسانية الفلسطينيين في حرب الإبادة في غزّة، أبرزها تبنّي معظم الإعلام الغربي السردية الإسرائيلية في توصيف أحداث الحرب

"اسمي عبد الله، وأنا عالق هنا، هل فكّرتم في ما سيحلّ بكم إذا دُمّر عالمكم؟"، يقول الطفل عبد الله اليازوري، بطل الوثائقي والراوي أحداثه. يقدّم الفيلم صورةً حقيقيةً أكثر من قاسية ليوميات الحياة تحت الإبادة. يصعب متابعة أحداث الوثائقي من دون الصدمة لبشاعة القتل وسريالية الصمود، وهو ما قد يفسّر الحملة الشرسة للضغط لسحبه. لكن، بصرف النظر عن النقاش في محتوى الفيلم، الذي حقّق نسبة مشاهدة عالية، فإن قرار سحبه يمثّل الحلقة الأكثر تعبيراً في عملية نزع الإنسانية عن المدنيين الفلسطينيين، ضحايا حرب الإبادة. قرّرت إدارة "بي بي سي" استجابة للضغوط عليها أن الطفل لا يستحقّ الرحمة ولا يمكن اعتبار معاناته ذات أهمية، لأنه فقط ابن وزير الزراعة في حكومة "حماس" التي كانت إسرائيل تعترف بها.

إذاً، السؤال هنا هو من يستحقّ الرحمة ومن لا يستحقّها؟ من يستحقّ أن يوصف بالضحية ومن لا يستحقّ أن يتمتّع بلقب كهذا؟... شاهدنا أمثلة يومية عن نزع إنسانية الفلسطينيين في حرب الإبادة في غزّة، أبرزها تبنّي معظم الإعلام الغربي السردية الإسرائيلية في توصيف أحداث الحرب والتعمية على المجازر المروّعة التي ارتكبتها آلة الحرب الإسرائيلية. إلا أن حجب معاناة الطفل ومحيطه، بحجّة أن والده مسؤول في "حماس"، هو أكثر بكثير من مجرّد التخفيف والتعمية. إنه قرار يحرم الطفل من هُويَّته الأساسية في عالمه الذي بات حطاماً.. هُويَّة الضحية.

تزامنت المعركة لسحب وثائقي "بي بي سي" مع محاولات إسكات محاولات تحدّي السردية الإسرائيلية

في كتابها "مظلومون... استخدام مفهوم الضحية سلاحاً"، تقول الباحثة في مجال الاتصالات ليلي شولياكي (كلّية لندن للعلوم السياسة والاقتصادية)، إن مفهوم الضحية بات سلاحاً في الصراع السياسي والاجتماعي، يستخدمه أصحاب السطوة لدعم ادّعاءات متزامنة، في حين أنها تناقض بعضها بعضاً. بات المصطلح مجالاً لادّعاءات عشوائية من الضحايا، لكن أيضاً من الجناة، الذين يقدّمون أنفسهم ضحايا للضحايا إذا ما تمكّنوا من السيطرة على السردية والتلاعب بها. بذلك، يصبح مفهوم الضحية جزءاً أساساً من سياسات الألم (Politics of Pain)، التي تُعدّ أحد وجوه الصراع الاجتماعي والسياسي. معركة كسب لقب الضحية باتت سلاحاً أساساً في النقاش العام، يمنح من ينجح بالإقناع بأنه الضحية الهيمنةَ التي يريدها في السياسة والثقافة.

تزامنت المعركة من أجل سحب وثائقي "بي بي سي" مع محاولات الإسكات (أو الإلغاء) المتواصلة لكلّ من يحاول أن يقدّم المزيد من التحدّي للسردية الإسرائيلية التي تستخدم مفهوم الضحية للتغطية على جرائم مروّعة. من الحملة على منح جائزة الأوسكار لفيلم "لا أرض أخرى"، وتصريحات المخرج الإسرائيلي الذي دان نظام الفصل العنصري في بلاده، إلى الضغط لسحب الترشيح لجائزة تقدير لشجاعة الصحافيين الفلسطينيين في تغطية الحرب على غزّة من الهيئة الملكية البريطانية للتلفزيون وغيرها... الحملة الشرسة لحجب مشروعية الضحية عمن يستحقّ اللقب بجدارة مثالٌ صارخ لتحوّل المفهوم أداةً سياسيةً للتضليل. موتوا بصمت.. تلك هي الرسالة من سحب وثائقي "بي بي سي"، وغيره من ضغوط على الأصوات الخارجة عن السرب.

قراءة المقال بالكامل