إن كانت هناك إحصائية للدول الأكثر فشلاً، فسورية ستتصدّر القائمة من دون ريب، ذلك أنها تعيش اليوم مرحلة اللادولة، رغم محاولات الظهور المعاكسة أمام المجتمع الدولي، أقصد حكومة ورئيس مرحلة انتقالية وإعلاناً دستورياً ومهزلة سمّيت مؤتمر حوار وطني، ومهزلة حلّ الفصائل ودمجها في مؤسّسة الدفاع... ما سبق كلّه ليس أكثر من سيناريو يقدّمه حكّام الأمر الواقع في محاولتهم استجداء اعتراف المجتمع الدولي لرفع العقوبات عنهم أفراداً ومنظّمات مصنّفة تحت قائمة الإرهاب، قبل رفع العقوبات الاقتصادية التي وُضعت في زمن بشّار الأسد.
لم تستطع حكومة الأمر الوقع خلال ما يزيد عن مائة يوم حلّ واحدة من المشكلات المعقّدة التي خلّفها النظام البائد (وجود هذه الحكومة أحدها أساساً). وأولها فرض الأمن، إذ ازدادت بنسبة كبيرة حوادث القتل والاختطاف والسرقات، وضخّ الحقد، وتعميم العنف والانتقام بأشكاله كافّة؛ مجزرة الساحل الشنيعة دليل مضاف للفشل، أو ربّما دليل على أن الفشل المتعمّد أحد مخرجات سيناريو هروب بشّار الأسد، وانسحاب مؤسّساته العسكرية والأمنية، ثمّ تقدّم هيئة تحرير الشام بالسلاسة التي كنّا جميعاً شهوداً عليها.
لم تستطع الحكومة أيضاً حلّ واحدة من الأزمات المعيشية، بل أمعنت في تكريسها، عبر تسريح آلاف العاملين تحت ذرائع مختلفة، وإبقاء مئات الآلاف من السوريين بلا مصدر دخل، ما زاد في منسوب الفقر، الذي يُقال إنه وصل إلى مستوى غير مسبوق في سورية. لم تستطع الحكومة أيضاً فرض سيطرتها على سورية كاملة، ولم تستطع حصر السلاح بيدها، وليس حقيقياً أن السلاح (غير الشرعي) موجودٌ في الجنوب والشرق السوري فقط. يتحدّث السوريون عن أن السلاح يسحب من أيدي العلويين فقط، بذريعة أنهم فلول، بينما هنالك مدن ذات أغلبية سُنّية يباع فيها السلاح علناً، وهو ما رأيناه عند إعلان النفير العام قبل مجازر الساحل.
لم تستطع الحكومة، على عكس ادّعائها، حلّ الفصائل المسلّحة المتطرّفة وضمّها ضمن مؤسّسة الجيش، ما زالت الحكومة ذاتها تتحدّث عن فصائل غير منضبطة، وتحمّلها مسؤولية المجازر والانتهاكات اليومية بحقّ السوريين من المكوّنات كلّها. وفشلت في وضع أطر للعدالة الانتقالية، أو محاسبة أي مرتكب منذ 2011 وحتى مارس/ آذار 2025، رغم وعودها كلّها، وتشكيلها لجاناً نعرف جميعاً أنها صورية، ولن تفعل شيئاً في ملفّات كهذه.
أمّا الفشل الأكبر فهو في التعيينات اليومية، رغم عدم قانونيّتها، لأشخاصٍ بلا أي خبرة، وبلا أي معرفة بالمجتمع السوري وعاداته وطبقاته المجتمعية والمناطقية والمذهبية، ومعظمهم يحمل شهادات مزوّرة أو حاصلين عليها من جامعاتٍ غير معترف بها نهائياً؛ سواء في الجيش أو القضاء أو التعليم أو التربية أو الإدارة. وصلت المهزلة إلى تعيين نقيب للفنون التشكيلية يحمل دكتوراه في الفقه الإسلامي من جامعة (أون لاين)، لديها ملفّ كبير عن عمليات بيعها شهادات وهمية، بالإضافة إلى أن لا علاقة له بالفنون إطلاقاً، بينما سورية مليئة بأعظم التشكيليين الذين لم يغادروها طوال السنوات الماضية، وطبعاً الذرائع كلّها التي يتذرّع بها المقرّبون من هذه الحكومة أن أصحاب الخبرة، ممّن يعيشون في الخارج يأتون إلى دمشق بقصد الحصول على مناصب ويذهبون، بمعنى أن مصلحة البلاد لا تعنيهم، هو تبرير ملفّق، فنعرف جميعنا أن كثيرين من شباب وصبايا سورية ممّن راكموا خبرات عبر السنوات الماضية عادوا إلى دمشق، ووضعوا أنفسهم تحت تصرّف الحكومة، وأقصوهم لصالح المجموعة المنتمية لهيئة تحرير الشام من أصحاب الفكر السلفي الجهادي.
سوف ينتهي هذا الفشل المتعمّد قريباً بكارثة كبيرة، تؤكّدها التقارير الدولية، ستكون الحرب الأهلية الحقيقية أوّلها، فالإقصاء والنبذ لأصحاب الفكر من غير السلفية الجهادية، ووضع مفاصل البلد في أيدي معدومي الخبرة، والسياسات التي تُعيد إنتاج شرائح مجتمعية مسلّحة مرتبطة بهذا الفكر سوف تعيد دائرة العنف إلى مربّع أكثر خطورة، ما يحدث كلّه ينذر بذلك، إذا لم تحدُث معجزة ما تنقذ سورية.
